-->

المشروع الوطني يدفع ثمن استبعاد المخلصين من صناعة القرار








يرى المفكر الغربي“توماس مور” وهو واحد من المدافعين عن فكرة الاغتيال السياسي، بأنها حاجة اباحتها الضرورة السياسية لاستمرار النظام القائم، في إزالة العقبات التي قد تتشكل أمام المشروع مهما كانت خلفياتها واسبابه او قيمة ودرجة ضحاياها، بل يعتبرها أداة من أدوات فن الحكم، اما في عالم الثورات فلا مبرر للعملية الا اذا كانت هناك ادلة دامغة تثبت تورط احد الأعضاء او القادة المعنيين في التورط مع العدو ضد المشروع الوطني، وقتها لابد لعملية ان تتم مهما كان ثمنها، وفي تاريخ البشرية عديد الأمثلة كقصة الشهداء الست والخائن اثناء الثورة البلشوفية، أين صعب على اجهزت الاستخبارات ان تحدد من الشخص الخائن بين دائرة السبع أشخاص المشكوك في واحد منهم، فقامت بتصفيتهم جميعا، لتطلق على المقبرة اسم مقبرة " الشهداء الست والخائن".
لم تكن الثورة الصحراوية استثناءا، فمنذ بدايتها شهدت نقاشات حادة في مختلف مراحلها ومنعرجاتها بين قياداتها، بين من يرى ان الثورة لم تنضج ظروفها بعد وبين من أخذ على نفسه عاتق المبادرة بالإعلان الفوري عن الثورة، فكانت مقولة الشهيد الولي الثورة الان او ابدا الشرارة الأولى للانطلاق الفعلي شهر يوليو 1972، فبعد ما شق المشروع الوطني طريقه نحو تثبيت اركانه وامتد اشعاعه إلى كل نقاط التماس الجغرافي للمنطقة، ليشهد اول احتكاك جدي من أجل السلطة او "انقلاب" عسكري داخل اللجنة التنفيذية 1974ضد الولي.
لم تستقر سفينة النقاشات والجدل الحاد بين مختلف النفسيات ولم تتحرر الجبهة من ارهاصات الصراعات و التجاذبات، التي اخذت عدت عناوين واشكال بين المناطقي والقبلي من جهة، والعسكري المدني من جهة أخرى، دون أن ننسى التصدعات الأفقية والعمودية داخل كلا التيارين، حتى بسطت اللجنة التنفيذية نفوذها كمركز للسلطة، لنعيش نوع من الاستقرار وتحكمت في مجريات الأمور، بعد ما أخذت مصداقيتها من الجناح العسكري، عزز دورها المركزي عديد الانتصارات على المحتل المغربي الغاشم أثناء الحرب، غير أن الاستقرار المؤقت لم يكن رحيما، فبعد ما شقت الدولة الصحراوية عباب بحر الانتصارات وبدأت تباشير النصر تلوح في الافق كنتيجة طبيعية للانتصارات الاسطورية، بطعم البارود وتحت إشعاع المعارك التي أرخت بنورها على كل المكاسب الوطنية، يكفي ان أكبر عملية اعتراف بأكثر من 20 بلدا بالدولة الصحراوية الفتية، ارتبط بهجمة هواري بومدين بين 1979 و 1980، فكانت الانتصارات كفيلة بجعل القيادات العسكرية ملائكة يمشون على الأرض، وهو ما آثار حساسية مفرطة تجاه التيار العسكري وعجل بمخطط تحطيم تلك الصورة الملائكية، من طرف المدنيين، ليبدأ المشروع الجديد في نوع آخر من الاغتيال السياسي ليس بالضرورة "التصفية الجسدية"، حيث بدأ بالتغول على صلاحيات اللجنة التنفيذية مختطفا شرعيتها معززا تواجدها، كقوة وحيدة بعدما اضعف التيار العسكري تحت مبرر ان وقت البنادق قد انتهى، والآن زمن الدبلوماسية والسلام، معلنة بداية مرحلة الاغتيال السياسي الأكبر للمشروع الوطني، منذ أكتوبر 1988، ثم برصاصة الرحمة التي اسست لمشروع جديد بدأت معالمه تتكشف منذ 1991، ليسقط اخر الحصون العسكرية ويبداء معول الهدم بشكل يناسب المرحلة، فالمكان لم يعد يتسع لملائكة الحرب، وصعود نجم ملائكة السلام او الشجعان الجدد الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة.
غير أن اصعبها وأكثرها إلاما ما تعلق بالثوار المقاتلين الذين ابانو عن رخس أرواحهم أمام حرية الوطن ومن الشجاعة والاقدام في زمن لا ميدان للتبارز سوى ميدان القتال في الحرب، التي فضل البعض الاستقالة الطوعية على أن يتمشق البندية زمن لا شرف إلا شرف حملها في ميدان تبارز فيه الشجعان، غير انهم فضلو الانتظار في الظل الى أن يحين وقتهم بعد إسكات البنادق. 
فبعد وقف اطلاق النار وخاصة بعد المؤتمر التاسع للجبهة، اوت 1995، خرج إلى العلن صراع الاغتيالات السياسية باكثر وضوح في معركة تكسير العظام بين صقور الحرب وحمائم السلام، عنوانه الثوار الجدد وتوزيع الريع لنشهد تصفية واحد من أبرز قيادات الحرب وبداية العد التنازلي لنهاية اسطورته القتالية المعطرة بالبارود الفواح وثنايا تجاعيد ملامحه التي ارهقها طفش سياسي الريع الجدد، إلى أن تم اعدامه بطريقة مهينة ليتنفس خصومه الصعدا بعد إزالة عقبته، كأداء أمام استتباب سلطتهم، ليعيد التاريخ نفسه مرة أخرى مع ضحية يتشارك مع آخر العساكر المنتحر في لحظة ضعف وللأسف.
فالرجلين قادمين من شرعية القتال، وقدرههما أنهما يملكان كل الشروط ليكونا بديلا جديا لتغيير الواقع، الذي أصبح معقدا إلى درجة ان القائمين عليه، يختلفون في كل شئ إلا تصفية من يحاول تغيير الواقع وتقريب الانتصار، وهو ما يعني منطقيا تغيير قواعد اللعب التي أصبحت تتقاطع مع مصلحة العدو اكثر من مصلحة الشعب. 
فالقاعدة تقول لا خير في نظام يأكل أبنائه وخاصة منهم المقاتلون...
اول اسباب التعجيل بتصفية الرجل عدم انخراطه في الصراع مع الانتهازيين والمتمصلحين من أجل تطهير مؤسسة جيش التحرير بعد المؤتمر الرابع عشر، وما قطعه لامتيازات مادية لأعضاء في مكتب الامانة كانوا يتمتعون بها بالرغم ان بعضهم لم يعد يحمل مبرر استفادته منها منذ ثماني سنوات تقريبا، ليس فقط هؤلاء بل كذلك مجموعة من قيادات الصف الثاني والثالث وهو ما ألب عليه الكثيرين في حملة لشيطنة الرجل ظاهرها انه متعجرف لا يفهم في السياسة وباطنها تصفيته، لانه لا يريد ان يدنس تاريخه القتالي، فطموحات هذه المجموعة المتصارعة على السلطة، كانت تكلفتها باهضة على المشروع الوطني من الآلالم والتضحيات وتضييع الكثير من الفرص الاستراتيجية لتقريب الاستقلال وإنهاء الاحتلال المغربي الجاثم على ارضنا...
أتصف الرجل بعقلية المسير العسكري الصارم، لا يجامل في العمل، ولكن أيضا لا يزايد على المخلصين، بل ثائرا صارما مترفعا عن كل شوائب الدهر ...
فالرجل حاول بعض سياسيو المصلحة الخاصة قتله سياسيا فتوجه الشعب زعيما ثائرا، ترى فيه الاجيال فجر النصر والاستقلال، فما حصل في الماضي وما لا يمكنه ان يتكرر اليوم بسبب بسيط ان كل شئ تغير الا من يعتقد انه علبة سوداء ترتب كل شئ من خلف الستار، وكأنه الوحيد المتحكم في تلابيب المشهد غير انه بقى حبيس تلك العلبة المغلقة على اصحابها منذ زمن كاصحاب الكهف... 
أن يقرأ التاريخ على طريقة حمائم السلام، ليس هو موضوعنا اليوم، فأنا لست بمؤرخ ولا صحفي محترف، لا ناقدا أدبيا ولا سياسي صانع قرار، انا خائف فقط على مستقبل مشروعنا الوطني وفي لحظة تيه قد يحرق قارب نجاتنا من كان يسلي النفس بمسرح العرائس دون ان يستحضر اننا في يم هائج تتلاطمنا أمواج السياسة الدولية العاتية، وحتى نفوت الفرصة على من يؤجج نار العداوة بين الاقطاب، لدخول الحركة في صراع الطواحين بين القيادات العسكرية، لعل ما حصل لعبدلله لحبيب، في لعبة لأنهاك الثور قبل الإنفراد به وقتله من طرف المصارع ويستمتع الجمهور بالعرض وينتشى المصارع بالنصر على الثور المنهك من صراع أخيه الثور، لكن عليه أن يحذر حتى لا تصيبه ضربة السيف الأخيرة، فكل شئ اليوم مفضوح! 
فمن ينصف عبدالله لحبيب، وأمثاله من الوطنيين، ويحميهم من طيش تجار "السلام"، ويعيد لهم الاعتبار لأن الثورة ليست غنيمة للانتهازيين بل هي اداة للتحرير وطرد المستعمر المغربي، حتى وان صمتت المدافع، فالاغتيال لن ينجح هذه المرة.
بقلم: محمد لمين حمدي

Contact Form

Name

Email *

Message *