-->

شهادة في حق الزعيم ... الجزء الاول


الديش محمد الصالح 
قد يتساءل البعض عن اسباب التأخر في الادلاء بشهادتي عن الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز، رغم مرور اربع سنوات على رحيله باعتبار أنني عملت إلى جانبه لأكثر من عقدين من الزمن، ولماذا اخترت هذا التوقيت بالضبط للإدلاء بهذه الشهادة؟
وجوابي على الشطر الاول من السؤال هو ان الشهداء لا يموتون، ومحمد عبد العزيز هو شهيد، لم يمت وسيظل دوما بيننا كجميع شهداءنا الأبرار، الذين لا ترتبط الشهادة عنهم بالدقائق او بالساعات ولا بالأيام او السنوات، فهم حاضرون في كل الأوقات والكلام عنهم مناسب في اي وقت. 
اما جوابي على الجزء الثاني من السؤال، فان الرئيس الشهيد محمد العزيز هو رمز من رموز الثورة الصحراوية واحد زعمائها البارزين، مثله مثل الفقيد محمد سيد ابراهيم بصيري والشهيد الولي مصطفى السيد، الذين كانوا نعم الزعماء، حيث سخروا كل حياتهم من اجل الوطن، وأضاءوا طريق المسيرة الكفاحية، وكما عاشوا بسطاء، رحلوا بسطاء. وبما أن تاريخ هؤلاء الزعماء هو جزء من تاريخ الشعب الصحراوي المرصع بالتضحيات والامجاد، فإن المسؤولية في تدوينه تبقى دوما ملقاة على عواتق الاحياء، خاصة الذين رافقوهم منا، كما انه من الواجب علينا ايضا إنصافهم في الدنيا بكلمة الحق اما الاخرة فمنزلتهم معروفة عند الله جل جلاله. وهنا لابد من استنطاق الضمير في قول الحق من قبل رفاقهم من القيادات بالدرجة الاولى، الذين لازالوا على قيد الحياة، ثم من طرف الذين كانوا بالقرب منهم، وذلك بإبراز مناقبهم ومآثرهم، وخصائلهم والمكاسب والانجازات التي تحققت خلال فترات قيادتهم، وكذلك بإزالة اي لبس يحوم حول فترة من الفترات او احداث او قرارات معينة اتخذها هؤلاء الزعماء.
شخصيا لم أسعد بلقاء الفقيد سيد ابراهيم بصيري، مؤسس الحركة الجنينية والعقل المدبر لانتفاضة الزملة 1970 التاريخية، او مفجر ثورة 20 ماي وقائدها الشهيد الولي مصطفى السيد رحمه الله، ولكن اشعر وكأنني أعرفهما حق المعرفة من خلال ما استنبطته من فخامة الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز طيب الله ثراه، الذي كان يكن لهما كامل الاحترام والتقدير. لقد كان رحمه الله يعتبرهما قائدين قدوة في المثالية والإخلاص والوفاء والشجاعة، ومفكرين عظيمين يعود لهما الفضل في اندلاع الثورة. وكان رحمه الله حريصا على اعطاء الامثلة بهما، ويختار الكلمات المناسبة لوصفهما. 
اما الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز، فإن ما سأقوله عنه هو قليل من الكثير، حيث كان الرجل يحمل كل صفات العقيدة الصحراوية الاصيلة؛ وطني، مخلص، متفاني، واسع الباع، رحيم، حليم، متواضع، صبور، كريم، متسامح، شجاع، مهذب، ذاكرته قوية ولديه قدرة لا متناهية على الاقناع، الشيء الذي جعله ينال محبة وتقدير ومهابة الجميع له كبارا وصغارا. وإن كان الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز قد غادرنا بجسده، فان أثره الطيب وخدماته الجليلة لهذا الوطن ولشعب هذا الوطن ستبقى منقوشة في ذاكرة كل صحراوي وكل صحراوية الى الابد. لقد استحق الزعامة وانتزعها بجدارة، حيث كان مقاتلا شجاعا بين المقاتلين في الجبهات الأمامية لا يخشى الموت، يتفقد احوال الآباء والامهات، ويزور المرضى، ويتابع احوال المستشفيات والمستوصفات، يباشر تربية الجيل الناشئ، قاطنا بين ظهران الشعب ويعيش افراحه واتراحه، في المقدمة خلال الحملات الشعبية، وفي زمن الكوارث يشرف بنفسه على عمليات الانقاذ، ولا يغمض له جفن او يستريح له عضو من جسده الا بعد ان يطمئن ان كل الأمور تسير على ما يرام. لقد تحمل الرجل ما لا يستطيع ان يتحمله أحدا اخرا وظل هكذا، ولم يبال يوما بالمرض الذي لاحقه لسنوات. كما كان مدافعا شرسا عن شعبه وقضيته في المحافل الدولية.


بدأ مشواري في العمل مع الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز مباشرة بعد المؤتمر الخامس للجبهة نهاية 1982، أي في الفترة التي كانت فيها المعارك المسلحة على اوجها، وكان عمري حينها لم يتجاوز الثامنة عشرة حولا. كُلفت أنذاك بأعمال الإدارة والسكرتاريا بالرئاسة إلى جانب أربعة أشخاص اخرين من بينهم الاخ محمد سيداتي بصفته امين عام للرئاسة. كان الرئيس الراحل اثناء تواجده بالشهيد الحافظ بوجمعة يمضي كل ساعات النهار في مكتبه، اللهم إلا إذا أخذ وقت قصير لتناول وجبة الغذاء التي عادة ما تكون في وقت متأخر من النهار، ثم يواصل العمل حتى الثلث الأخير من الليل في بعض الاحيان. 
لقد كان فخامة الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز بالنسبة لي الاب والمعلم والقائد، وله علي دين كبير في انه منحني وسام التحدي والصبر والجد والمثابرة، وما أعظمه من وسام. كنت اشرت له ذات مرة في بداية العمل معه ان ما كلفوني به يفوق مؤهلاتي الثقافية، كون ان اعلى مستوى لدي حينها هو ستة اشهر من التكوين الإداري بالجزائر، وخاصة اذا تعلق الامر بالتحرير والكتابة والتعامل مع اللغات الاجنبية، لكنه فجاءني بالقول "أن الأعذار غير مقبولة لأن لا أحد ولدته امه متعلما ... لقد وقع عليك الاختيار وعليك بالتحمل وحل هذه الإشكالية بنفسك". وهكذا لم يترك لي من خيار آخر غير أن ارفع التحدي، وفعلا زالت الاسباب بمرور الايام. وإلى جانب مكتب الرئيس والسكرتاريا الذين احتفظت بالإشراف عليهما طيلة عملي بالرئاسة، كلفت أيضا بملفات استشارية كالشؤون الاقتصادية والاجتماعية والدفاع والأمن وكان آخر منصب اتولاه هو مدير ديوان الرئيس. 
ان الحديث عن الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز ليس بالأمر السهل، كونه شخصية غير عادية، فهو من قاد الحركة والدولة لما يقارب الأربعين سنة، وهي تجربة طويلة جمعت بين سنوات الحرب المسلحة وحالة اللاحرب واللاسلم التي لازلنا نعيشها بعد وقف إطلاق النار، وتحقق في ظلها الكثير من المكاسب والانجازات، كما شهدت إرساء قواعد البناء الحديث للدولة والمجتمع الصحراويين. وبما أنني عشت فقط جزء من هذه التجربة، سوف أركز على محطات بارزة اريد ان ارفع اللبس عنها خلال الفترة الممتدة من المؤتمر الخامس إلى المؤتمر الحادي عشر للجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب.


لقد كان الرئيس محمد عبد العزيز يؤمن ان طريق الكفاح صعب ومرير ويتطلب قاطرة مرنة وسلسة تقدم المبادئ على المصالح وقيادة متجردة من ذواتها، وذلك لن يتأتى إلا بالتشبث نظريا وعمليا بأولوية الحركة على الدولة لتجنب اي انزلاق قبل تحقيق الهدف. كانت الوحدة الوطنية هي منطلق ومركز تفكير الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز وهي البوصلة التي تنير طريقه، حيث كان يؤمن بأنها سر الانتصار والنجاح وقاطرة النجاة، كما انها كذلك هي أساس بناء الدول والمجتمعات الحضارية. فلم ينحصر مفهومه لها في رص الصفوف وزرع حب المصلحة العامة والدفاع عنها والتضحية من اجلها فحسب، بل تعدى ذلك ليشمل المحافظة على قيم المجتمع ومكاسبه وتحصينه أمام محاولات العدو الهادفة إلى تقسيمه. وانطلاقا من هذا، لعب دورا رئيسيا في جمع الشمل وتصفية الخواطر، وهو ما أكسبه قوة في الشخصية. كما كان حريصا على اتخاذ القرارات بالإجماع لإلزام الجميع باحترامها والقيادات على وجه الخصوص بتنفيذها، وظل يتّبع هذا الاسلوب حتى بعد توقف الكفاح المسلح. ولم يحدث ان لجأ الرئيس محمد عبد العزيز لحسم قضية من القضايا بالتصويت لانه كان يعطي الوقت الكافي حتى يتحقق الإجماع عليها. كان مكتبه مفتوحا امام الجميع فرادى وجماعات؛ امام القادة والمسؤولون على اختلاف مستوياتهم، امام الاباء والشيوخ الأجلاء، امام المقاتل وامام المواطن العادي، حيث كان يستقبلهم بصدر رحب وينصت جيدا لما يقولون، ولم يخرج أحدا من عنده الا وعلامات الرضى على وجهه.
شهدت سنوات الحرب قمة الانتصارات والمكاسب المحققة في جميع الجوانب، حتى انها اجواءها ساعدت في اشاعة قيم المثالية والتضامن والاندفاعة والإبداع والترفع عن صغائر الأمور مما بالكاد غيرت من نمط حياة وتفكير المجتمع نحو الأفضل، الأمر الذي هيأ الأرضية لنجاح الخطط والبرامج، وخاصة الاجتماعية منها وعلى رأسها التعليم والصحة وتهذيب الجماهير. هناك عاملا آخرا ساعد كثيرا في تجاوز هذه المرحلة، الا وهو قوة انسجام الهيئة القيادية العليا، التي كانت حينها اللجنة التنفيذية، وتقاسمها للمهام فيما بين اعضائها وصرامتها في تنفيذ القرارات. وبما أن القرارات كانت تتخذ بالإجماع وبعد تقييم شامل ومحاسبة لكل عضو من الاعضاء على أية تجاوزات أو اخفاقات، كان الرئيس يشرف على عملية التنسيق بين الاعضاء المكلفين بالملفات الكبرى أثناء التنفيذ، رغم أن اهتمامه كان منصبا على الجيش بالدرجة الأولى. لذلك كان في حالة سفر دائم اما لقيادة المعارك في جبهات القتال او لقيادة المعركة في منظمة الوحدة الافريقية/ الاتحاد الافريقي الآن او للإشراف على الحملات الشعبية لبناء المستشفيات والمدارس ... ولم يسجل قط انه تغيب عن اي من التزاماته. 
... يتبع
03 يوليوز 2020

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *