-->

كان الأولى التطبيع مع المغاربة


بنية تحتية هشة،  أساسها الخداع ، مدن عريقة غارقة في مياه الأمطار بسبب فساد الدولة ونهب مسيريها من علياء الهرم إلى أسفله، أطفال حفاة يفترسهم البرد في سفوح الجبال، لا ماء ولا كهرباء، ومازالت أمهاتهم وأباؤهم يقطعون الوديان الوعرة لجلب الحطب والكلأ، هناك تموت النساء وهن في طريقهن إلى الولادة على نعوش محمولة على أكتاف أمثالهم من البؤساء، والطريق قبل الوصول إلى طريق معبدة شوك وأحجار  وفيافي وقفار. ملايين من الشباب العاطلين عن العمل، جزء كبير منهم خريجو كليات ومعاهد عليا ، يضطرون لركوب قوارب الموت بحثا عن حياة في الضفة الكافرة التي تؤمن بحقوق الناس وتعرف قدرهم. يغادرون دون إبلاغ أمهاتهم من مدن الشواطئ كالحسيمة ومن أمصار لا تعرف طعم الملوحة كبني ملال، ومن كل بقاع المملكة المطبِّعة السعيدة، بعضهم يصل، والآخرون تلتهمهم الأسماك والحيتان ثم يلقي البحر بما تبقى من جثتهم، مشوهة مجهولة.


إنه المغرب السعيد، الحزين أبناؤه، وفي كل مدينة قصر ، وعلى طول الرصيف المؤدي لكل قصر خليط من جحافل متراصة من الدرك والشرطة والعسكر والقوات المساعدة، وبداخل كل قصر ما طاب للنفس وما لذ من ألوان الطعام المعدة على مدار الساعة، وكل مجهز بأنماط الفراش والأرائك وأدوات المتعة المستوردة، وقد لا يأتي إليه صاحب الجلالة إلا ساعة في السنة، وقد لا يأتي حتى تلك الساعة، ولا يجوز أن يأتي وهناك نقص في صغيرة أو كبيرة كل حين. بينما مازال بعض الشعب يأكل من القمامة، وامرأة تحاكم في هذي الآناء لأنها أخرجت ست عشرة بيضة من معمل بيض يملكه برلماني لا يحضر جلسات مجلس النواب، وربما قد نسي شكله، ويتقاضى أجره الباذخ من أفواه الشعب.


مغرب سعيد في المظهر، وبئيس في المخبر، وما أدراك ما المخبر.  سيارات فيراري ، وجحيم البراري ، فلل لأثرياء الدولة الذين جمعوا أموالهم من حرام، شقق فاخرة لخدامها الأوفياء، ومدن مأهولة وراء السور الجميل، مخبأة مهمشة، إن زرتها أمسكتِ الأنوف أنفاسها من روائح الوادي الحار الجاري الكريه فوق الأرض

ولمن أراد الخروج من مدن الهامش ما عليه سوى اقتناء شقة اقتصادية، عرضها في طولها خمسون مترا مربعا، لا تسع الكلاب في الضفة الغربية –ضفة أوروبا وأمريكا- وبالتقسيط المريح من بنوك صاحب الجلالة. وهؤلاء أفضل حالا ممن يعيشون في “البراريك” ودور الصفيح التي تعلوها الصحن الطائرة لمشاهدة القنوات التلفزية، لعل الأحلام تنسي “الفقسة”.

ومن قالوا لا، لهذا السخط ، من أرادوا حفظ ماء الوجه، وطالبوا بالشغل وبمشفى أو مدرسة في مدينتهم المحاصرة ، لقوا جزاء عشرين سنة من السجن، وعُذبوا وأهينوا واغتصبوا ، وبعضهم قٌتلوا ب”الزراوط”… للإشارة حتى الكيان الصهيوني يصوب على أعدائه رصاص الرحمة.

هنا الشعب المنهك المسكين الذي يعيش بفضل قلوب أبنائه. ذات مرة سألني أحد مواطني العراق الشقيق عن حال البطاقة التموينية في المغرب ومقدار حصول المغاربة على الزيت والدقيق والأرز والسكر والشاي والحليب المجفف والمواد الأساسية في الشهر، فصُدم المسكين -الذي كان يحصل عليها حتى في زمن الحصار أيام صدام وبعده- حين قلت له: إن المغاربة لا يعرفون معنى تلك البطاقة، فما بالك بالبطاقة نفسها، وأنها لتعد ضربا من ضروب الخيال العلمي في معتقدات المغاربة وتاريخهم  قبل واقعهم ، ليس لفقر الوطن، إنما للنهب والاحتكار الذي يشل ويحيط أطرافه.

كان الأولى التطبيع مع المغاربة، فمتى قام الحاكم بالتطبيع مع الشعب حصلت المشروعية التي تفيض إلى الإجماع… يذهب رئيس ويأتي آخر، يرحل ملك ويأتي ولي لعهده ، وقد يقع انقلاب، وقد تتغير القيادات ، لكن الشعب باق بأجياله لا يرحل في كل الأحوال. هو أساس كل دولة، وبدونه لا وجود لها. إذا وعى وصحا غضب، وإذا غضب هدم معبد الاستبداد ومداخنه.


الشعب أساس البقاء، وكل احتلال زائل، الشعب بعد الأرض ثابت، والثالث حاكم متغير.  القمع لا ينتج ولاء، والحكم لا يطول لمن يهرول طامعا في سراب وليس له مبادئ، وإن امتد  العرش قرونا ، وإن طال عمر الشجرة عصورا فلا بد لها من خريف قاس وقد يقع اجتثاثها على يد فأس غادر. وتبقى الذكرى الطيبة إن اعتصم الحاكم بالمبادئ. وكان الأولى التطبيع مع المغاربة.


فؤاد وجاني كاتب مغربي

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *