-->

الدولة الصحراوية: من ولادة جريئة إلى حقيقة لا رجعة فيه


بقلم: الديش محمد الصالح 

يحيي الشعب الصحراوي هذه الأيام الذكرى الخامسة  والأربعون لإعلان الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية في ظروف غير عادية تتميز باندلاع الحرب الثانية مع المملكة المغربية بعد اقدام هذه الأخيرة على خرق وقف اطلاق النار يوم 13 نوفمبر من العام الماضي، ضاربة بذلك الشرعية الدولية عرض الحائط. كما يخلد الشعب الصحراوي حدث ام المكاسب في أجواء تطبعها هبة وطنية واستعداد غير مسبوق للتضحية وتصميم منقطع النظير من اجل استكمال تحرير الاجزاء المحتلة من اراضي الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. وبهذه المناسبة، فمن المفيد جدا ان نسلط الضوء بالتحليل على هذا الحلم  الذي ظل يراود الشعب الصحراوي عبر العصور في إقامة دولته المستقلة، والذي اصبح حقيقة لا رجعة فيها بعد ولادة جريئة.

لقد ظلت الساقية الحمراء ووادي الذهب عبر الازمة، أرضا حرة، عصية على الطامعين من الأوروبيين وغيرهم، بمن فيهم الجارة الشمالية المملكة  المغربية، والذين كلهم حاولوا غزوها بالقوة، ولم يفلحوا في ذلك، نظرا لشراسة وشجاعة اهلها في القتال وصلابة ارادتهم ورفضهم لأية تبعية مهما كان نوعها.

 لقد حرص الصحراويين قبل الاستعمار على رسم وتامين حدود الساقية الحمراء ووادي الذهب، وعيا منهم بأهميتها الاستراتيجية، ولكي لا يتجرأ احد على المطالبة بها أو ببعض منها. كما حافظ الصحراويون عبر العصور على هويتهم الوطنية وتماسك مجتمعهم وصانوا عاداتهم وتقاليدهم باعتبارها عناصر هامة في تمييز الشعب الصحراوي عن غيره. لقد كان للصحراويين نظامهم السياسي الخاص بهم، المبني على الشوري، وكانت لديهم سياسات اجتماعية واقتصادية وتربطهم علاقات واسعة بالعالم الخارجي المحيط بهم. هذه البراهين هي التي اسست محكمة العدل الدولية سنة 1975 حكمها عليه في عدم وجود اية روابط سيادة للصحراء الغربية مع المملكة المغربية او الكيان الموريتاني. ولولا الحيلة ما تمكنت اسبانيا من استعمار أرض الساقية الحمراء ووادي الذهب، التي عمرت بها ما يقارب القرن من الزمن، ومع ذلك، ما كان لها إلا أن ترضخ في النهاية لضغط المقاومة الصحراوية التي لم تتوقف على مر الزمن.

لقد شكلت انتفاضة الزملة يوم 17 يونيو سنة 1970، بقيادة المنظمة الطليعية لتحرير الصحراء، نقطة تحول بارزة في تاريخ المقاومة الصحراوية، حيث طالب زعيم هذه الحركة آنذاك محمد سيد ابراهيم بصيري، الذي اعتقلته السلطات الاسبانية في تلك الاحداث  ولازال مصيره مجهولا إلى اليوم، اسبانيا باحترام ارادة الشعب الصحراوي في الحرية والاستقلال وتهيئة الظروف لنقل السلطة لدولة صحراوية مستقلة، لقطع الطريق امام الاطماع التوسعية المتزايدة للجيران. واشتد ضغط المقاومة على الاستعمار مع ميلاد الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب يوم 10 ماي 1973 واعلان الكفاح المسلح بعشرة ايام بعد ذلك، ما حذا بإسبانيا إلى الدخول في مفاوضات مع الجبهة بشأن ترتيبات نقل السلطة للصحراويين. لكن، ما ان دخلت الفرحة في نفوس الصحراويين بقرب استقلالهم، حتى خذلتهم اسبانيا بتآمرها مع المملكة المغربية من الشمال والجمهورية الإسلامية الموريتانية ( المخطار ولد دداه) من الجنوب،  ضدا على ارادة الشعب الصحراوي وفي خرق سافر للمواثيق الدولية وقرار محكمة العدل الدولية.

كانت الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب ( جبهة البوليساريو)، هي القوة السياسية التي تحظى بتأييد غالبية الشعب الصحراوي، بشهادة من بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق التي زارت المنطقة سنة 1975. وبناء على ذلك، نالت جبهة البوليساريو الشرعية في تمثيل الصحراويين وقيادة كفاحه التحريري.

وما ان علمت جبهة البوليساريو بالاتفاقية الثلاثية المشؤومة الموقعة بمدريد يوم 14 نوفمبر سنة 1975، حتى باشرت التحضيرات للإعلان عن قيام الدولة الصحراوية المستقلة مع انسحاب آخر الجنود الاسبان. وعلى ضوء الإعلان عن الوحدة الوطنية يوم 12 أكتوبر 1975، اجتمعت الجمعة العامة (الجماعة)، التي كانت السلطة المحلية ابان الاستعمار الإسباني، يوم 28 من نفس الشهر لحل نفسها وليحل محلها المجلس الوطني الصحراوي المؤقت الذي اعلن يوم 27 فبراير 1976 عن قيام الدولة الصحراوية المستقلة، الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. وفي حفل الإعلان، إعطى مفجر ثورة العشرين ماي وقائدها، الشهيد الولي مصطفى السيد رحمه الله، إشارة رفع العلم الوطني، والذي قال حينها بالحرف الواحد:" بسم الله، وبعون من الله، وتجسيدا لإرادة شعبنا العربي، ووفاء لشهدائنا الأبرار، وتتويجا لتضحيات شعبنا  سيرتفع اليوم على أرض الساقية الحمراء ووادي الذهب علم الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية". وفي بيانه بالمناسبة، اكد المجلس الوطني الصحراوي المؤقت، ان هذا الإعلان كان استجابة لإرادة الشعب الصحراوي المنصوص عليها في إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة رقم 1514 الذي صادقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة  في دورتها الخامسة عشرة سنة 1960، كما اكد المجلس ايضا على عزم الشعب الصحراوي على حماية استقلاله ووحدته الترابية والسيطرة على موارده وثرواته الطبيعية. 

 لقد فرضت المسؤولية الملقاة على جبهة البوليساريو، كممثل شرعي ووحيد للشعب الصحراوي ورائدة كفاحه، في ان تزاوج بين متطلبات التحرير وبناء الدولة في شقيه المؤسساتي والمجتمعي، حيث عكفت منذ الوهلة الاولى، رغم ظروف الحرب وتكالب المؤامرات، على تجسيد الرسالة الحضارية للشعب الصحراوي من خلال ارساء دعائم دولة عصرية على اساس معايير الديمقراطية، سيادة القانون واحترام الحريات الاساسية، والتي قطعت اشواطا هامة في تحقيقها ابان فترة الحرب الاولى لتستكمل ما تبقى منها خلال مرحلة اللاحرب واللاسلم. وحرصا منها على الرجوع للشعب في صنع القرار، انتهجت جبهة البوليساريو اسلوب تنظيم مؤتمرات عامة من فترة لأخرى، تضم اعداد كبيرة من المندوبين، يتخللها تقييم واختبار لتجربتها ووضع السياسات والتوجهات العامة، بما في ذلك، ان انتهى الامر، مراجعة الدستور الذي يتبنى في صيغته الحالية النظام شبه الرئاسي ويعتمد مبدأ الفصل بين السلطات التنفيذية، التشريعية والقضائية.

وهكذا، تم اعتماد استراتيجية رباعية الابعاد راكمت تجربة فريدة من نوعها ونموذجية في البناء، حيث ركزت في بعدها الأول، على ربح الحرب الضروس مع المملكة المغربية من خلال إعطاء الأولوية لجيش التحرير الشعبي الصحراوي. وفي هذا الإطار، تم إنشاء هيئة أركان عامة، وضعت نصب اعينها تنظيم الجيش الصحراوي وتحديثه والرفع من جاهزيته البشرية والمادية وتعميق خبرته لتحقيق النصر على الغازي المغربي. وقد برهن جيش التحرير الشعبي الصحراوي على قدرته على التصدي لأي تهديد للسيادة الوطنية، حيث يبسط كامل سيطرته على الأراضي المحررة.

اما بعدها الثاني، فقد شكلت إدارة الشأن العام محورا اساسيا فيه، لا من حيث إقامة المؤسسات والبنيات التنظيمية الضرورية او تحسين اساليب الادارة والتسيير، بل كذلك بسن القوانين المنظمة للحياة العامة وترقية جهاز العدالة، كما انصب الجهد على التخفيف من معاناة الشعب بضمان الحد الأدنى من استقرار الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وفي هذا الإطار، تم تسجيل نجاحات كبيرة وبنسب عالية في مجالات مثل التعليم، الصحة والتأمين مما يؤكد انها حظيت بأكبر قدر من الاهتمام. وهنا لابد من الإشارة لجهود الدولة الصحراوية في توسيع نطاق اشرافها ليشمل كل الصحراويين أينما تواجدوا، حيث انشأت وزارة خاصة بالمدن المحتلة والجالية الصحراوية في المهجر.

وفي بعدها الثالث، تم التركز على الاستثمار البشري باعتباره راس المال الأول، ولكون الإنسان الصحراوي العنصر الحاسم في معركتنا التحريرية. وفي هذا المضمار، تمكنت المرأة من تبوأ مكانة مرموقة داخل المجتمع وفي مختلف المؤسسات الوطنية، بينما الشباب، هو الاخر، ظل يتصدر كل السياسات لضمان التواصل والحداثة.

اما البعد الرابع، فيتعلق بالاعتراف الدولي بحق الشعب الصحراوي غير قابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال وجلب التأييد للدولة الصحراوية المستقلة، وفي المقابل التنديد بالغزو المغربي ودحض دعايته والكشف عن جرائمه. وهكذا، راهنت الدبلوماسية الصحراوية في نجاحاتها على قوة الحجة القانونية والتاريخية وتشبث الشعب الصحراوي بخيار الاستقلال،  مما مكنها من اختراق مواقف المنظمات الدولية، الدول، الاحزاب ومن نسج شبكة علاقات واسعة عبر العالم، كما فرضت في المقابل عزلة خانقة على المملكة المغربية. لقد تبوأت الدولة الصحراوية مكانتها الطبيعية داخل المنتظم القاري لتصبح فيما بعد احد مؤسسي الاتحاد الافريقي، كما تعترف بها أزيد من 80 دولة، تربطها بأغلبها علاقات دبلوماسية. كما ظلت قضية الصحراء الغربية تعالج في الأمم المتحدة ضمن أجندة  تصفية الاستعمار، رغم عدم حصول اي تقدم في انهائه.

إن الدولة الصحراوية اليوم حقيقة وطنية، قارية، ودولية لا يمكن نكرانها، بحيث تمتلك كافة المقومات وتستوفي جميع شروط الحداثة، وهذا يؤكد ان فكرة الإعلان عنها، في تلك الظروف الصعبة، لم تكن من قبيل الصدفة، بل جاءت بفضل نظرة عميقة ومتبصرة وبناء على حسابات دقيقة تدرك جيدا مآلات نضالات الشعوب المشروعة من اجل حريتها واستقلالها. فإيمان القائد الفذ، الشهيد الولي مصطفى السيد رحمه الله، القوي بالشعب الصحراوي وبعزيمته التي لا تلين وبشاعة واقدام أبناءه وبناته، هو ما كان وراء كل القرارات والخطوات الجريئة المتسارعة التي أتخذها بدءا بإعلان الكفاح المسلح، ثم اعلان الوحدة الوطنية، ليتوج هذين الاثنين بإعلان الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. وتجدر بنا الإشارة هنا الى الحنكة التي تحلى بها شيخ المجاهدين الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز رحمه الله في تجسيد مقومات الدولة الصحراوية وبناء المؤسسات وفي قيادة المسيرة الكفاحية. 

لقد خاض الشعب الصحراوي مسيرة كفاح طويلة وشاقة، ولكنها حافلة بالانتصارات والمكاسب وبأجمل صور التحدي والابداع، استطاع خلالها هذا الشعب ان يفرض خياره الابدي المتمثل في دولته المستقلة المكتملة الاركان، التي بدون شك سيتعزز بوجودها السلم والاستقرار وستفتح الباب نحو مستقبل واعد للمنطقة ولإفريقيا وللعالم كله. لقد قدمت الدولة الصحراوية فرصة ثمينة لجارتها الشمالية، حيث أوقف حربها الاولى معها، وتحملت قرابة ثلاثين سنة من الانتظار والترقب، ليس ضعفا منها، ولكن سعيا لسلام دائم مبني على الاحترام المتبادل طبقا لمقتضيات الشرعية الدولية التي تنص على احترام حق الشعب الصحراوي غير قابل للتصرف في تقرير المصير والاستقلال. ومادامت المملكة المغربية قد ادارت ظهرها للحق والعدل واختارت التصعيد، فلها ذلك، وميدان المعركة هو الحكم، وبالتأكيد ان اليوم ليس كالأمس وان غدا لناظره قريب.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *