أحمد الريسوني.. السقوط المدوي
تكلّم الريسوني في الدين فأبدع وتكلم في السياسة فابتدع. كلام الريسوني حول الصحراء الغربية وتندوف وموريتانيا يجعل منه ناطقا باسم المخزن وليس رئيسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. لقد أطلق الريسوني العنان للسانه وخاض مع الخائضين فسقط سقطة مدوية سيكون لها ما بعدها، سقطة كفارتها في أضعف الإيمان أن يترك مكانه لغيره لأنه لم يعد جديرا بعد الآن برئاسة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وقد أشعل بكلامه فتيل فتنة كبيرة بين المسلمين و”الفتنة أشد من القتل”.
هل يرضى العلماء الموريتانيون -حتى أشدّهم معارضة للنظام الحاكم في موريتانيا- أن يبقى الريسوني رئيسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وهو يقول عن موريتانيا إنها جزء مسلوب من المغرب؟! وهل يرضى العلماء الجزائريون -حتى أشدهم معارضة للنظام في الجزائر- أن يبقى الريسوني رئيسا لهذا الاتحاد وهو يحرِّض المغاربة على إكمال المسيرة الخضراء -كما قال- من العيون إلى تندوف؟.
أليست سقطة الريسوني طعنة في جسد الأمة الإسلامية التي أصابها ما أصابها في زمن التطبيع؟. ليس غرضنا من هذا المقال أن نحجر على أفكار الآخرين أو نُكرههم على إتِّباع طريقتنا فلكلٍّ وجهة هو موليها، ولكن غرضنا أن نبيّن أن الريسوني العالم لا يليق به أن ينزل إلى هذا الدرك فيستوي هو والذين لا يعلمون.
كنت متوجِّسا منذ البداية من “مبايعة” الريسوني رئيسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لأنني أعرف أن له شطحات في السياسة قد تضيّعه وتخرجه عن الموضوع وقد تضر الاتحاد أكثر مما تنفعه، وقد وقع ما كنت أخشاه وبويع الريسوني رئيسا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بعد أن أعفي يوسف القرضاوي بعد أن أقعده المرض وبلغ من الكبر عتيا. قال الريسوني حينما سُئل عن رأيه حول مشكلة الصحراء: “أنا على فكرة علال الفاسي. سبق أن ذكرتُ أن وجود موريتانيا غلط فضلا عن الصحراء، فالمغرب يجب أن يعود كما كان قبل الغزو الأوروبي. كانت موريتانيا جزءا من المغرب ونحن نثبت مغربية الصحراء ببيعة أهلها للعرش الملكي، ولكن أعيان موريتانيا أو علماء موريتانيا أو ما يسمى الآن موريتانيا أو بلاد شنقيط أيضا بيعتهم ثابتة إلى آخره، إذن هذه صناعة استعمارية، ولكن قضية موريتانيا اعترف بها المغرب وتُركت للتاريخ ليقول كلمته في المستقبل، لكن الصحراء مشكلة استعمارية، وللأسف أن تتورط دولٌ شقيقة ودول عربية إسلامية في دعم بل في تبني هذه الصناعة الاستعمارية. هذا من جهة ومن جهة أخرى للأسف معالجة قضية الصحراء تتم بمعزل عن الشعب، وهو الذي جعل بعض المسؤولين يتوهمون أن إسرائيل تنفعنا، فلنأتِ بإسرائيل لكن لو كان الاعتماد على الشعب وهو خمسة وثلاثون مليونا فهو مستعد أن يجاهد بماله وبنفسه وأن يتعبّأ كما تعبّأ في المسيرة الخضراء وأن يقطع آمال الذين يفكرون في فصل الصحراء وفي خلق أي مشكل للمغرب، فالمغرب إذا دعا جلالة الملك إلى مسيرة بالملايين، إذا دعا إلى الجهاد بأي شكل إذا دعا إلى الجهاد بالمال فنحن مستعدون، علماء المغرب ودعاة المغرب مستعدون أن يذهبوا ويقيموا بالأسابيع والشهور في الصحراء وفي تندوف، نحن لا نقيم مسيرة إلى العيون بل مسيرة إلى تندوف، فالدولة بدلا من أن تعتمد على الشعب اعتمدت على إسرائيل وستكتشف السراب وعسى أن تعود إلى الشعب، قضية كهذه لابد العودة منها إلى الشعب وقواه وطاقاته التي لا نهاية لها”.
ليس في كلام أحمد عبد السلام الريسوني ما يُحمد ولا ما يؤسِّس لثقافة السلم بين المسلمين، وليس في كلامه أيضا ما يمكن أن نعدَّه حقيقة تاريخية، فجلُّ كلامه مزيجٌ من الخلط والخبط الذي لا يليق بمكانته. إنه يقلّب الأمور ويخلط حقا بباطل ويدسُّ السم في العسل بكلام ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب. لو قال الريسوني إن الحدود بين الدول العربية والإسلامية صناعة استعمارية لوافقناه على ذلك من دون تردد لأنها حقيقة تاريخية كان الهدف منها تفتيت الأمة الإسلامية وتشتيتها حتى لا تقوم لها قائمة لأن الفكر الاستعماري مؤسَّس على سياسة “فرِّق تسُد” المناهِضة للتوجيه القرآني: “وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”.
لقد جاء في “وثيقة العلماء في ثوابت الإسلام” التي أقرتها الاتحادات والروابط لعلماء المسلمين التابعة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن فلسفة الاتحاد قائمة على إحياء الوحدة الإسلامية كأصل من أصول الدين، وفيما يلي جزء مما ورد في هذه الوثيقة: “إن وحدة المسلمين أصل من أصول الدين قال تعالى: (“إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون “)الأنبياء/ 92 ، فعليهم السعي في تحقيقها، أفرادا وجماعات وشعوبا ودولا، وتتمُّ الوحدة على النحو الذي يناسب الزمان والمكان، ومن أهمها: وحدة في الشعور بالأخوّة في الدين، ووحدة في التعاون على البرّ والتقوى، والتكافل الاقتصادي والتكافل الاجتماعي، ونبذ الفرقة والتنازع، قال تعالى (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم “(الأنفال/46).
قول الريسوني إنني إزاء مشكلة الصحراء على فكرة علال الفاسي قولٌ يحتاج إلى توضيح حتى يعرف القراء لماذا استدل الريسوني العالم بعلال الفاسي الثائر. لقد طالب الفاسي زعيم حزب الاستقلال المغربي في تجمع حاشد سنة 1956 بضرورة إحياء الإمبراطورية العلوية قائلا: “نطالب بكل أجزاء الإمبراطورية العلوية التي لم تتحرر بعد، والتي تبدأ من طنجة شمالا مرورا بالصحراء الغربية وصولا إلى الصحراء والحدود الجزائرية، بشار والأغواط وأدرار مرورا باطار في موريتانيا وصولا إلى السينغال، وإذا لم تتحرر هذه المناطق فإنّ من واجبنا أن نقوم بفعل لنحرر وطننا ونوحده”.
إن سياسة علال الفاسي التي يؤيده فيها أحمد الريسوني لا تكتفي بـالهيمنة على الصحراء الغربية، بل تتعداها إلى أجزاء كبيرة من وطننا المفدى ومن موريتانيا والسينغال، وهذه سياسة توسُّعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أليس من حقنا أن نسأل الريسوني عن سبب تنازل المغرب عن المطالبة بموريتانيا وتمسُّكه في المقابل بالصحراء الغربية؟. ما هو رد أحمد الريسوني على بعض الكتاب -كما فعل الكاتب الصحراوي حمدي يحظيه في مدوّنته” في مقال بعنوان: “نبض التاريخ: كيف بدأ المغرب بالمطالبة بالصحراء الغربية؟” الذي يُرجع ذلك إلى الاتفاق بين محمد الخامس والفرنسيين على إعطاء المغرب استقلالا شكليا مقابل مساعدته في التآمر على الثورة الجزائرية، وطلب فرنسا من المغرب القبول بمنح الاستقلال لموريتانيا؟ وما هو رد الريسوني عن الرأي القائل بأن مطالبة المغرب بالصحراء ازدادت بعد اكتشاف الحديد في الزويرات؟.
نحن باحثون ولسنا سياسيين ولسنا طرفا في النزاع وغايتنا معرفة الحقيقة، فهلا أفادنا بها أحمد الريسوني وفصّلها لنا تفصيلا كما عهدناه في بحوثه الأكاديمية أم أن نازع الولاء سيتغلب على موضوعية العالم فيجعله -شاء أو أبى- سائرا في ركب السلطة على طريقة شاعر غزية؟.
وهناك سؤال ملحّ نوجهه إلى الريسوني وله أن يجمع له العلماء والحكماء من كل الأمصار: ما هو تصوُّرك لموريتانيا: هل كانت قبائل معزولة يسهل ضمُّها واحتواؤها أم كانت إمبراطورية مترامية الأطراف؟.
في انتظار إجابته أجيب أنا على السؤال اعتمادا على قراءتي المتواضعة لما ورد في بعض الوثائق التاريخية والتاريخ -كما يقال- عنصرٌ محايد لا يحابي أحدا، جاء في هذه الوثائق التي نشر مركز الجزيرة للدراسات عينة منها أنه: “قبل الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا، كان يُطلق اسم موريتانيا على منطقة “المور” و”الأمازيغ” (البربر)، أي المنطقة الممتدة من طنجة (تانجيس) في الشمال إلى السنغال ومالي في الجنوب، ومحدودة في الشرق بمملكة نوميديا (لمساغا) وفي الغرب بالمحيط الأطلسي”.
إننا نؤمن بالوحدة المغاربية، ومن مقتضيات هذه الوحدة أن نسعى جميعا إلى إزالة آثار الاستعمار وإفساد مخططاته في المنطقة المغاربية، لا أن نختلق عراقيل جديدة تحول دون قيام هذه الوحدة بالتظاهر بالدعوة إلى التعبئة ضد دولة شقيقة أو ممارسة دور الحكم والخصم في قضية هي من اختصاصات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وليس للجزائر ضلعٌ أو طمع فيها. إنني أتمنى أن يراجع الريسوني نفسه ويتوب عن خطيئته ليحافظ على مكانته فجلّ من لا يخطئ و”كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”.
نشر موقع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ما سمّاه “توضيح حول للمقابلة التلفزيونية لفضيلة العلامة أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين-حفظه الله- حول الصحراء المتنازع عليها”، وجاء في التوضيح: “إن دستور الاتحاد العالمي لعلماء ينص على أن الرأي الذي يُسند إلى الاتحاد هو الرأي الذي يتم بالتوافق، والتوقيع عليه من الرئيس والأمين العامّ بعد المشورة، ثم يصدر باسم الاتحاد. وبناء على هذا المبدأ فإن المقابلات أو المقالات لسماحة الرئيس، أو الأمين العامّ تعبِّر عن رأي قائلها فقط، ولا تعبِّر بالضرورة عن رأي الاتحاد”.
من حق الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يوضّح ومن حقنا أن نلحَّ في السؤال: هل من المنطق أن تُختزل قضية بحجم الصحراء الغربية في مجرد رأي شخصي لا يُلزم الاتحاد بل يُلزم صاحبه، فهلا سأل كتّاب هذا التوضيح أنفسهم: من القائل؟ وما طبيعته وما مكانته؟ هل هو من عامة المسلمين أم من الكتاب الأحرار؟ كلا إنه ليس واحدا من العامّة؛ إنه رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وما يقوله للصحافة أو يكتبه في مقالة أو يصرِّح به في مقابلة ينبغي أن يوزَن كل هذا بميزان الشرع ويخضع لميثاق الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لأنه يتحدّث نيابة عما يناهز ملياري مسلم، فإذا شاء أن يكون حرا في رأيه فليعتزل وبالاعتزال يزول الإشكال. وهل الصحراء الغربية قضية متنازَع عليها –كما جاء في توضيح الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين- أم هي قضية مفصولٌ فيها؟ ألا تحمل هذه العبارة مغالطة صريحة أم هي زلة لسان أم جهل بتاريخ الصحراء أم ماذا؟.
محمد بوالروايح ـ الشروق اونلاين