-->

مسلسل الحكاية

 


مسلسل “الحكاية”، هو توثيق حسي للواقع المعاش والمسكوت عنه؛ في موريتانيا ففي هذه المواجهة الكبرى، أو الملحمة الدرامية، يخسر أدو قلبه، وتنتقل أمل من حضن إلى آخر، مجسدة بذلك مقولة اجتماعية بشعة: أن جمال المرأة يقاس بعدد زيجاتها، وبعدد الذين انتظروها بعد الطلاق.
يمغنط المسلسل بعدسة الكاميرا؛ كيف يخسر من يفرط في عاطفته، وكيف يتحول الجمال من نعمة إلى لعنة، إذ لا أحد يرغب في الاستيقاظ على القبح.
وكيف دفعت أمل ثمن تربيتها بعيدًا عن أمها، فالامتنان شعور فظيع حين يُفرض كواجب.
وفي سبيل ذلك الامتنان، خسرت أمل معركة حبها الطفولي العفيف، وزُفّت إلى سيدي محمد؛ فقط لتتجنب وصف ونعت “ناكرةُ الجميل”.
كم تبدو الخسارات موجعة أمام الحب! نظرات أدو، وحسرته على تاريخٍ من الحب النبيل، تذبح المشاهد. نفس الخيبة تحملها ملامح أمل، فالمحبون، حين تثقلهم ذاكرتهم المفخخة بالألم، يصبح لديهم وجه واحد، خيبة واحدة.
خيبة رسمها سيدي محمد على خريطة الوجع بنفوذه، وسار أدو فوقها خطوة خطوة، ليتناص في ذلك مع مقولة محمد الماغوط: “إن الموت ليس هو الخسارة الكبرى، الخسارة الأكبر هو ما يموت فينا ونحن أحياء”.
انتصرت خالة أمل، ولو مؤقتًا. لمدة ستة أشهر، ظلت تفاخر نساء مدينة “أطار” بالجاه والمال الذي حصلت عليه أمل، لكنها عادت من بيت الزوجية تحمل حقيبة سوداء وخيبة كبيرة.
ذلك الخجل الذي شعرت به أمل فور وصولها إلى “أطار”، كان صدى لصرخة الفنان العبقري ولد الشيغالي، حين رفع عقيرته صادحًا: “الدهر ألا تسدار كرور”.
وهكذا خرجت أمل كأي مهزومة في معركة العشق، تحمل جسدًا بلا روح، وجثة هامدة بلا قلب. لقد استودعت قلبها عند أدو ومنحته حرية الاحتراق.
احتراق لا يشعر به إلا من هُزم أمام سلطة المجتمع، أو من استيقظ على رسائل حزينة تشبه تلك التي تقول: “أريد أن أتقيأ قلبي”.
كان صديق أدو منقذه الوحيد، أصرّ على حماية قلبه، وأبعده عن كل سكاكين الجراح، لكنه أبصره يتقلّب على نار الحب، ويعيد للعشق سيرته الأولى. وكما تحترق السيجارة بين يديه، كان قلبه يحترق.
ملاحم العشاق موجعة، أدركها عبد الفتاح في ذروة جنونه، فلم يمنح قلبه أي سلطة، عاش عمره من أجل الشاي واللحم في كل فرصة.
أما انتصار خالة أمل، فتجسده زيجاتها الكثيرة، كل مرة تردد فيها: “ذاتها زينة”؛ ذلك الجمال سيكون مصدر عذابات أمل، وتلك الابتسامة الساحرة سينتج عنها الكثير من الألم والاكتئاب، حين تتحول الجميلة من حضن رجل أعمال إلى آخر، في ملحمة درامية تشرح كيف يتحول الإنسان من كائن بريء إلى حيوان شرس تحت سلطة المال!
في الوجه الآخر للحياة، يقف أدو بجسده النحيف وعينيه الشاردتين في العدم، تمامًا كما أسعده حب أمل للحظات من العمر الهارب، وعذّبه طيلة العمر المتبقي.
في هذه الحكاية، جسٌّ للنبض، ولمسٌ لجسد المجتمع، ونبشٌ في طبقاته بكل ما فيها من قبح وجمال. ازدراء لمن لا يملك شيئًا، واحترام مفروض لمن يملك كل شيء، سوى سعادته.
“الحكاية” جسّدت الكثير من الدمع والهزيمة.
أعادتني نظرات أدو إلى كل هزائمي أمام من أردته بحق؛ تذكرتُ حرب أدو المسكين من أجل من لم تستطع أن تحارب لأجله، وكيف يقتل فيها الرضوخ لإملاءات المجتمع شغب الحب وشغفه الطفولي وعنفوانه الكبير… كما أني لم أستطع الشفقة على سيدي محمد رغم محاولاته! وهذا سر نجاح مسلسل “الحكاية” فقد جعلنا نعيش مع كل شخصية، نحزن معها مرة ونكره مرات.
لقد كانت يد القدر عادلة عندما صفعت سيدي محمد فجأة، حين طلبت أمل منه الطلاق، في رسالة واحدة تقول: المال يجعلك تعيش حزنك برفاهية، لكنك، مقابل لذة عابرة، قد تتخلى عن تلك الرفاهية.
في “الحكاية”، أبدع فريق العمل، وتجلت عبقرية آخر رسل الفن في إتقان لا يعرف التهاون. أجاد المخرج مصطفى البان، وكاتب السيناريو الربيع إدوم، فكانت الحكاية مرآة للمجتمع، ودرسًا لكل عاشق هُزم أمام قوانينه.
المصدر: الصحافة الموريتانية 

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *