-->

رحلة سبعــــة وأربعـــــون عاما في ذاكـــرة مذيـــع الأجيـــال نهــــــاد نجيــــــب (حوار خاص )

عمان/ حوار/صلاح الربيعي (وكالة المغرب العربي للانباء المستقلة) مذيع عراقي رائد انطلق من مدينة الذهب الأسود في كركوك لم يصدأ صوته الرخيم على مر السنين والذي جعله يطاول قامات المذيعين من زملائه وتلامذته الذين عملوا معه في الإذاعة والتلفزيون منذ تأسيسهما ولحد الآن ..
منذ طفولته كان يحلم بأن يكون مذيعاً وتحقق حلمه في الرابعة عشرة من عمره حين شارك بتقديم برنامج مدرسي يهتم بالفعاليات المدرسية عبر إذاعة بغداد، كان حضوره خلف المايكروفون وإطلالته على شاشة التلفاز مزيجا من فن الإلقاء الراقي والالتزام المهني الذي وشم ذاكرة الأجيال بأعطر الذكريات، انه الإعلامي العراقي نهاد نجيب الذي بدأ عمله كمذيع في إذاعة بغداد عام 1964 وبأجر أسبوعي قدره 6 دنانير حينها كان طالبا في كلية الإدارة والاقتصاد ثم الحقوق وبعدها في كلية الآداب قسم الصحافة وقرأ أول نشرة إخبارية رئيسة مباشرة في صباح اليوم الثاني من تعيينه خلافاً للتقاليد الإذاعية المعروفة التي تقتضي بإبقاء المذيع سنة كاملة تحت التدريب ليكون بعدها مذيعا بشكل رسمي عندها لفت أنظار المحيطين به سيما أستاذ الصحافة المصرية خليل صابات الذي تنبأ له بمستقبل مميز وتمنى له بأن أن يتزوج ويرزقه الله بأولاد يصبحوا مذيعين وبكفاءة والدهم التي نالت أعجاب كل من عرفه وسمع صوته وأدائه وقد تحققت تلك النبوءة بعد سنين، لقد اغتنمنا فرصة وجود نجيب في عمان التي زارها مؤخرا لكي يحدث لاماب المستقلة عن تجربة دامت لأكثر من 47 عاما دون انقطاع كانت زاخرة بالجهد والتعب والإبداع ومليئة بالمواقف والأحداث التي لاتنسى ..
 وقد تركنا لضيفنا  حرية الحديث عن تجربته الإذاعية والتلفزيونية الطويلة دون قيود أو أسئلة معدة مسبقا لنكون أكثر قربا لما يجول في خاطر وذاكرة المذيع نهاد نجيب الذي تحدث لنا قائلا :
لم تكن البداية سهلة وإذا ما عدت بذاكرتي إلى سنين مضت أشعر بالخوف والقلق وكأني أعيش في تلك اللحظات التي لا أعرف كيف انقضت وكم هو المشوار طويلا للوصول إلى هدف ربما يتحقق أو لا يتحقق  ليس ضعفا وإنما حرصا على نجاح المهمة التي اخترتها بكل إصرار ومحبة  .. وأنا طالب بمرحلة  المتوسطة كان لدي ميل وهوى نحو التمثيل الذي أحببته كثيرا وشاركت بوقتها في عدة أعمال مسرحية مع فرقة سميت بفرقة الذهب الأسود في كركوك حيث تميزت فيها بالأداء وتجسيد الأدوار التي تتطلب لقاءا معبرا.. وفي مرحلة الثانوية أصبح فكري يتجه نحو الإذاعة وأسرح في فضاءات رحبة لايمكن أن أصفها حينما كنت أستمع لرواد الإذاعة الذين تأثرت بهم آنذاك  كالأستاذ سعاد الهرمزي ومحمد على كريم وناظم بطرس وحافظ القباني الذين تميزوا برشاقة الأداء ورخامة الصوت وقراره والجدية في القراءة الوثائقية .. كل ذلك كنت أتلمسه من خلال النشرات الإخبارية وبعض البرامج الإذاعية التي أستمع إليها كان يتعاقب عليها الأساتذة الرواد وما يتركونه من أثر عند  المستمعين لايمكن نسيانه .. ميدان العمل الإذاعي أو التلفزيوني لايمكن لشخص أن يخوض فيه مالم يمتلك الأدوات التي تؤهله لهذا الميدان منها الثقافة العامة والموهبة والمهارة وحب العمل والالتزام به مع الاستناد إلى الدراسة الأكاديمية بهذا المجال التي تعطي زخما نحو التطوير والنجاح في أية مهنة  في الحياة سيما ونحن نرى اليوم الكثير ممن يزج بنفسه في مجال الإعلام سواء كان في الصحافة أو التلفزيون أو الراديو وهو لايمتلك مقومات هذا العمل وأهمها الثقافة العامة وضبط اللغة والحضور المؤثر والجرأة والمصداقية والحرص على المهنة واحترامها وأن يتذكر دائما بأن هذا المجال ليس ملعبا لكرة القدم يكون فيه اللاعب رابحا أو خاسر وإنما لابد من النجاح وإدامة هذا النجاح الذي حرصت عليه على مدى عقود من الزمن بشهادة المتابعين المختصين .. كان ذهابي اليومي لمبنى الإذاعة أو التلفزيون في بغداد عبارة عن مناسبة رائعة أحتفي بها كلما أكون في الأستوديو لأقدم فيها نشرة للأخبار أو برنامج ما  و كنت أشعر بسعادة المستمعين وحزنهم مع كل خبر أذيعه وكأني أراهم وأنا خلف المايكروفون الذي كان أول حبيب أتحدث معه في حياتي ولا زلت اعشقه  بقدر عشقي للمستمعين الذين كانوا يتابعون مانقدمه من برامج ونشرات إخبارية على مدى سنين طويلة .. وبعد مشوار ليس بالقصير مع إذاعة بغداد كانت الانتقالة  إلى التلفزيون الذي ظهرت  على شاشته كمذيع لأول مرة في عام  1969 بعدها تفرغت للعمل فيه عام 1977  مع احتفاظي بعملي بالراديو الذي كان بمثابة بيتي الثاني الذي اعتز به أيما اعتزاز .. عملي في تلفزيون العراق أضاف لي خبرة فوق ما أمتلكه من مهارات بالتقديم والإلقاء والأداء كما أتاح لي التلفزيون مساحة من الرضا عن النفس وان كل ماقدمته كان بالنسبة لي متعة والأهم من ذلك كله محبة الناس لنا التي تعطينا زخما للتواصل مع الحياة رغم متاعبها .. وان عبارات الإعجاب والتقدير والمحبة التي نتلقاها من العراقيين في الأماكن العامة وفي بعض المناسبات دليل نجاحنا في الجهد الذي قدمناه على مدى أربعة عقود ماضية وان هذا الجهد قد أثمر وان العراقيين أوفياء لمن يخلص لهم ويعمل على خدمتهم .. عملي التلفزيوني كان بمثابة السفينة التي أبحر على ظهرها من خلال نقل وتغطية العديد من المهرجانات والمؤتمرات كان أبرزها مؤتمر القمة العربية في مدينة فاس بالمغرب في بداية الثمانينات و تقديم النقل المباشر لمناسك الحج في مكة المكرمة الذي شاركني فيه الزميل صباح الربيعي من على جبل عرفة  خلال الأعوام 1986- 1989 - 2002 والمشاركة في قراءة نشرات إخبارية رئيسة على شاشة تلفزيون وإذاعة الكويت ضمن اتفاقية تبادل المذيعين عام 1989 .. وفي عام 2000 تلقيت دعوة رسمية من  ( التلفزيون الجزائري ) لغرض إعداد وتنظيم دورتين لمذيعي وصحفيي العاصمة الجزائرية التي أشادت بكفاءة وقدرة الإعلامي العراقي وإمكاناته المهنية العالية في الصحافة والإعلام .. وكانت لنا بصمة واضحة  بتقدم المئات من البرامج الإذاعية والتلفزيونية الدينية والثقافية والتراثية والفنية كان أبرزها برنامج ( من الذاكرة ) الذي كان يتابعه عدد كبير من المثقفين وسياسيين ووزراء سابقين نلت عنه جائزة الإبداع .. وعندما افتتحت قناة العراق الفضائية السابقة عملت فيها رئيسا للمذيعين وللقسم الديني والإشراف اللغوي ومديرا لمركز الإنتاج البرامجي ومشرفا للعديد من الدورات التدريبية ومحاضرا فيها  منذ عام 1999 .. من خلال عملي بالتلفزيون التقيت كبار السياسيين والرؤساء العرب منهم رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الراحل ياسر عرفات كما التقيت عددا من الفنانين العرب الذين شاركوا بكثير من الفعاليات الفنية في بغداد أمثال الفنان وديع الصافي  وصباح ونجاة االصغيرة ومحمد رشدي والفنان الراحل عبد الحليم حافظ  عام 1965 . وفي مجال الصحافة كان لي حضورا في مقالات فنية وثقافية وأول مقال كتبته في صحيفة الزمان عام 1963 كان بعنوان ( ماأتمناه للمسرح العراقي ) .. وفي التمثيل فقد جسدت أدورا مختلفة بأعمال تلفزيونية أبرزها مسلسل الأصمعي ومسلسل الزمن والغبار وحكايات المدن الثلاث وفيلما تلفزيونيا من إخراج نبيل يوسف .. في كثير من الأحيان تكون دمعتي قريبة من عيني عندما أرى أو اسمع مايؤلم أهلي وأصدقائي وأحبتي العراقيين وهم يعيشون في محنة الظروف الصعبة المختلفة بعد الاحتلال وأتمنى أن تنقضي تلك المحنة وتشرق الشمس على بلادي من جديد .. وبعد ابتعادي عن بغداد مجبرا قلت فيها .. لقد تعبت من البقاء بعيدا عنك يابغداد يامدينة الصبا والشباب والعشق الدائم .. أصارع أيامي وأنا مهجر قسريا عنك .. فلا أنا الذي أدركت الحياة معك .. ولا أنا الذي غادرتك إلى عالمي الذي لايضمني مثلك .. أصعب اللحظات هي التي تجعلني أعيش في دوامة بين الخيارات فمرة أنت الأقرب والذي يجعل الكون بكامله باقة ورد في يدي ، ومرات أنا الغريب وأنت المجهول الذي لم يكن .. آه ما أصعب أن يكون المرء مهاجرا وأيامه ترحل وكأنها في ركض دائم  بعيدا عنك أيتها الحبيبة يابغداد .. وأتساءل والأعاصير تثير عالمي .. هل يسعدك قلقي وشوقي اليك ؟ أردت أن أنسج لك من أيام العمر أحلى قصيدة .. وكنت قد قضيت في مدينة استانبول التركية ومدينة مرمريز المطلة على بحر ايجة والمتاخمة لحدود اليونان أياما من العمر لاتنسى وهي مركزا ضخما للترفيه والسياحة وأحد أكبر المتنزهات في تركيا .. أما كركوك فهي مدينتي ومسقط رأسي التي حزنت عليها وعلى قلعتها التاريخية التي يرقد فيها النبي دانيال عليه السلام .. انها مهملة ولم تحظى بالاهتمام كما حظيت المدن الأخرى وهي نائمة على كنز من الذهب الأسود والنار الأزلية تشتعل من حولها .. وأنا أتأملها وأضرب كفا بكف وأردد مع نفسي  يامدينة العلم والثقافة والفنون .. يامدينة المقام العراقي الأصيل .. يافسيفساء العراق .. يامدينة التعايش السلمي والسماحة متى أراك تضاهين مدن العالم عمرانا وبهاءا وجمالا وأمنا وأمانا ؟؟ وكلما يجتاحني الحزن استمع إلى الغناء الأصيل الذي يسمى اليوم بالغناء القديم بل أسميه الأصيل .. الأصيل وأخشى أن يأتي يوم ننسى فيه كوكب الشرق أم كلثوم وأغانيها الخالدة والموسيقار محمد عبد الوهاب وهو يغني ( كل دة كان ليــــه ؟ ) وكل ما أتمناه اليوم أن تتاح لي الفرصة لمعاودة تقديم برنامجي ( من الذاكرة ) في فضائية متذوقة للفن وأهل الفن لنبقى على اتصال دائم بتراثنا الفني الخالد .. وأتمنى لفن المقام العراقي أن يقدم  بأصوات تليق به اداءا وطربا .. وأكثر ما يشعرني بالقلق والألم  هو لجوء الآلاف من العراقيين إلى بلدان المهجر  بعد أن اقتلعتهم الظروف العصيبة من وطنهم وبيوتهم وشردتهم إلى المنافي .. وكلي أمل بأن يعود العراق معافى من كل الأحزان التي عاشها أهله وأن يعم الأمن والسلام والخير على وطني العراق وفي جميع بقاع العالم .

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *