دبلوماسية القمح والعقوبات ولعبة الاستقطاب العالمي
في ظل اضطراب الاقتصاد العالمي، ونقص الغذاء والوقود، وارتفاع التضخم وتكلفة التمويل، وتراجع معدلات النمو، تتهم القوى العالمية المتصارعة بعضها البعض بالمسؤولية عن خلق هذه الأوضاع. دبلوماسية القمح والغذاء والطاقة والعقوبات الأمريكية تروج أن «الغزو الروسي لأوكرانيا» هو المسؤول عن التدهور. في حين أن الدبلوماسية الروسية تتهم «العقوبات الأمريكية والأوروبية» بالمسؤولية عن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة والمعاناة الاقتصادية التي يعيشها العالم. الدول الكبرى التي كانت بالأمس تدعو إلى عدم تسييس التجارة العالمية، خصوصا تجارة السلع الإستراتيجية، تناقض نفسها الآن بالإفراط في استخدام أسلحة الحرب الاقتصادية، وعلى رأسها تجارة القمح والأغذية والوقود والتمويل، وهي أسلحة تصيب الدول النامية والفقيرة بأضرار فادحة، تجعلها تدفع ثمن صراع لا ناقة لها فيه ولا جمل. هذا التوسع في استخدام أسلحة الحرب الاقتصادية أدى، حسب تقديرات البنك الدولي، إلى زيادة حدة الفقر والجوع في الدول النامية، كما ترك آثارا سلبية اجتماعية خطيرة في الدول الصناعية.
وبسبب تسييس تجارة الحبوب فإن متوسط أسعار القمح ارتفع إلى ذروة تاريخية في ايار/مايو الماضي ليبلغ سعر الطن 522.3 دولار، بزيادة نسبتها 75.7 في المئة عن الشهر نفسه من العام السابق. وكان متوسط سعر القمح في السنوات الخمس السابقة لانتشار فيروس كورونا يتراوح بين 150 إلى 230 دولارا. ومع بدء تنفيذ الاتفاق الأخير بإطلاق شحنات القمح الروسي والأوكراني إلى العالم، فإن الأسعار تتجه الآن للانخفاض بمعدلات سريعة. وقد بلغ سعر الطن من القمح الأمريكي في الأسبوع الأول من الشهر الحالي 348 دولارا، وهو ما يقل بنسبة 33.3 في المئة عما كان عليه قبل الاتفاق، وبنسبة 9.4 في المئة عن الفترة المناظرة من العام الماضي. وهذا يعني أن تكلفة إنتاج الخبز يجب أن تنخفض بسرعة لتعكس الانخفاض في أسعار القمح العالمي.
العالم العربي وأفريقيا
تعتبر الدول العربية حجر زاوية رئيسيا في نجاح أو فشل نظام العقوبات ضد روسيا، فهي أهم منطقة في العالم تستطيع تقديم بدائل للنفط والغاز الروسي خصوصا إلى أوروبا، كما أنها أهم أسواق صادرات السلاح والقمح والحبوب الروسية. ومن ثم فإن منع الصادرات الروسية من دخول الأسواق العربية يحرمها من أهم أسواقها. لهذا السبب فإن محاولات استقطاب الدول العربية للمشاركة في فرض العقوبات ضد روسيا لا تتوقف، سواء بممارسة الضغوط أو تقديم الحوافز. وبينما أرسلت روسيا وزير خارجيتها إلى المنطقة لإجراء اتصالات مباشرة مع مسؤوليها، ومخاطبة مندوبي الدول العربية في مقر الجامعة العربية في القاهرة، فإن أوكرانيا أرسلت مبعوثا خاصا ليخاطب الجامعة العربية أيضا، ويدعو إلى الاشتراك في مقاطعة روسيا. أما الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي فإنها تحاول بطرق متعددة إقناع الدول العربية بزيادة امداداتها من النفط والغاز إلى أوروبا، وتقليل الاعتماد على القمح والأغذية الروسية. كذلك فإن الولايات المتحدة طلبت تغيير نظام مناقصات شراء القمح بواسطة الحكومة المصرية، بقصد عرقلة شراء القمح الروسي. وترفض الحكومة الأمريكية بشكل عام استخدام التسهيلات الائتمانية المقدمة للدول النامية في استيراد حبوب وأغذية من روسيا.
العقوبات قوة محركة للأسعار
بنهاية الشهر الماضي، قدر البنك الدولي أن متوسط أسعار السلع الزراعية يزيد بنسبة 19 في المئة عن كانون الثاني/يناير 2021. ورغم اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، فما تزال أسعار القمح أعلى بنسبة 22 في المئة والذرة أعلى بنسبة 16 في المئة، والأرز أعلى بنسبة 14 في المئة. وبسبب ارتفاع أسعار الحبوب فإن معدل التضخم يتجاوز 5 في المئة في معظم دول العالم، ويرتفع لأكثر من 10 في المئة في عدد من البلدان النامية والمتقدمة. ومن المتوقع استمرار المعدلات المرتفعة لأسعار الحبوب والسلع الغذائية حتى عام 2024. وقد حذر البنك الدولي من أن العالم قد يشهد لعدة سنوات ظاهرة «الركود التضخمي» التي تعني معدلات تضخم أعلى من المعتاد، ومعدلات نمو أقل من المعتاد في كل دول العالم تقريبا، لكن تأثيرها يكون أشد ايلاما في الدول النامية.
وكان المستوى العام لأسعار المواد الغذائية قبل حرب أوكرانيا مرتفعا عن الأعوام السابقة، بسبب اضطرابات العرض الناتجة عن تأثير التغيرات المناخية، وصعوبة انتقال الأيدي العاملة بسبب فيروس كورونا، وعدم انتظام حركة النقل بين دول العالم بسبب اضطراب سلاسل الإمدادات العالمية. ومن ثم فقد جاء أثر العقوبات على الأسعار شديدا، نظرا لحساسية السوق بسبب العوامل السابقة، وكذلك لأن العقوبات لا تقتصر على التجارة، لكنها تضرب دورة الزراعة والصناعة والتمويل والنقل والتأمين، بدءا من إتاحة البذور والأسمدة إلى تصنيغ المنتجات وتوفير وسائل نقل المحاصيل من مناطق الإنتاج إلى مناطق الاستهلاك. ومن ثم فإن العقوبات المفروضة على روسيا تؤثر سلبا على الإنتاج الزراعي في مناطق أخرى من العالم، نظرا لضخامة حجم إنتاج الأسمدة التي تتيحها روسيا. ويقدر البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة أن روسيا وبيلاروسيا، تسهمان وحدهما عالميا بنسبة 38 في المئة من إمدادات الأسمدة البوتاسية، و17 في المئة من الأسمدة المركبة، و18 في المئة من الأسمدة النيتروجينية. وقال ديفيد بيزلي مدير برنامج الغذاء العالمي أن تداعيات الحرب الأوكرانية «تسببت في كارثة جديدة فوق كارثة كانت موجودة فعلا».
الجوع يضرب 800 مليون شخص
ومع استمرار الحرب والعقوبات، فإن تقرير «حالة الأمن الغذائي في العالم» أظهر أن عدد السكان الذين يعانون من الجوع في عام 2021 قد ارتفع إلى 828 مليون شخص بزيادة 46 مليون عن العام السابق، وبمقدار 150 مليون شخص عن عام 2019. وذكر تقرير مستقل لمنظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الغذاء العالمي أن حالة الأمن الغذائي ستتدهور خلال الفترة حتى ايلول/سبتمبر المقبل في 20 دولة نامية حول العالم، وهو ما يتطلب اتخاذ إجراءات سريعة وجادة على المستوى الدولي لمنع تفاقم الجوع في الدول المكشوفة غذائيا.
برامج دولي للدعم الغذائي
في هذا السياق قرر البنك الدولي إعداد برنامج للمساندة الغذائية بتكلفة تصل إلى 30 مليار دولار، يتضمن تمويلا لمشروعات متنوعة في الدول المكشوفة غذائيا، تشمل قطاعات الإنتاج الزراعي والمياه، ومنشآت التخزين، وإنتاج الأسمدة وتقديم التسهيلات التجارية لتمويل الواردات، إضافة إلى مساعدات غذائية مباشرة لتأمين الاحتياجات اليومية للسكان الأشد فقرا في دول مثل اليمن والسودان وتشاد. وقد استفادت من هذا البرنامج حتى الآن مصر بقيمة 500 مليون دولار، وتونس بقيمة 130 مليون دولار، ودول أفريقية وآسيوية ولاتينية أخرى مثل غانا ورواندا والسنغال وسييراليون والهند وبنغلاديش وغواتيمالا. وخصص البنك مبلغا يصل إلى 2.3 مليار دولار في أواخر حزيران/يونيو الماضي لتمويل برنامج للأمن الغذائي في بلدان شرق وجنوب أفريقيا. كما تم تخصيص 570 مليون دولار لتمويل برنامج لتعزيز الأمن الغذائي في منطقة غرب أفريقيا.
الولايات المتحدة
في مواجهة الدبلوماسية الروسية التي تتهم العقوبات الأمريكية بالمسؤولية عن تفاقم أزمة الجوع في العالم، وافق الكونغرس الأمريكي على برنامج للمساعدات الغذائية بقيمة 5 مليارات دولار، من المتوقع أن تستفيد منه الدول ذات الأمن الغذائي المنخفض. جزء مهم من هذه المساعدات سيستخدم في تمويل المشتريات من القمح الأمريكي والسلع الغذائية الأخرى، ونقلها إلى الدول المستوردة بواسطة وسائل نقل أمريكية.
ويقود وزير الخارجية الأمريكية أنطوني بلينكن، ومديرة وكالة المعونة الأمريكية سامنتا باور ترويج الدبلوماسية التي تتهم روسيا وحربها في أوكرانيا بالمسؤولية عن أزمة الجوع في العالم. وفي هذا السياق فإن بلينكن سافر إلى جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا، حيث بدأ من هناك إطلاق برنامج للمساعدات الغذائية في شراكة مع الحكومات والمؤسسات والشركات، لمنع الجوع والتصدي لأزمة الأمن الغذائي العالمية. وتتولى هيئة المعونة الأمريكية تمويل برنامج لمساعدات غذائية عاجلة بقيمة 760 مليون دولار للتخفيف من حدة الفقر والجوع وسوء التغذية في البلدان الضعيفة المتأثرة بارتفاع أسعار المواد الغذائية وكذلك الأسمدة والوقود، من المفارض تنفيذه خلال ثلاثة أشهر اعتبارا من الشهر الحالي.
روسيا
منذ قمة طهران الأخيرة التي ضمت رؤساء إيران وتركيا وروسيا، كثف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتهاماته للولايات المتحدة وأوروبا ودول حلف الأطلنطي، بأنها جميعا مسؤولة عن تفاقم أزمة الجوع في العالم منذ تطبيق العقوبات على روسيا، التي تضمنت فرض حظر على الصادرات الروسية من الحبوب والمواد الغذائية والأسمدة، ومنع تمويل مشتريات الدول المستوردة، وحرمانها من التأمين وخدمات النقل. وقال في المؤتمر الصحافي في نهاية قمة طهران أن على الغرب أن يرفع حصاره عن الأسمدة والحبوب الروسية إذا كان صادقا في رغبته لحل مشكلة الغذاء العالمية. وذكر أن محادثاته الثنائية مع الرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، تضمنت «قضية الحبوب» حيث قال إن روسيا مستعدة لتقديم الدعم في تصدير الحبوب الأوكرانية، إلا أن مشكلة الغذاء حول العالم لا تقتصر على الحبوب الأوكرانية فحسب، وإنما تتعلق كذلك، وبشكل أساسي، برفع القيود المتعلقة بتصدير الأسمدة والحبوب الروسية، وقال «لقد اتفقنا على كافة الإجراءات مع المنظمات الدولية» موضحا أن تخفيف العقوبات سيؤدي إلى إطلاق كميات ضخمة من الحبوب الروسية تصل إلى 30 مليون طن في هذا العام، و50 مليون طن في العام المقبل. الاتفاق الذي بدأ تنفيذه بالفعل، يتضمن إلى جانب القمح الروسي الكميات الممكن تصديرها من أوكرانيا أيضا، والتي قدرتها الحكومة هناك بحوالي 20 مليون طن.
وقد واصلت روسيا حملتها الدبلوماسية المضادة للاتهامات الأمريكية، حيث قام وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي بزيارة لأفريقيا، التقي خلالها مسؤولين في أربع دول أفريقية هي مصر واثيوبيا وأوغندا والكونغو. وركز لافروف في خطابه السياسي على إدانة الولايات المتحدة، واتهامها بأنها تقف وراء أزمة الغذاء العالمية وفي أفريقيا على وجه الخصوص. وقد تركت الدبلوماسية الروسية أصداء إيجابية في أفريقيا لدرجة أن رئيس الاتحاد الأفريقي وجه رسائل مباشرة إلى قيادات مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى ودول الاتحاد الأوروبي يناشدهم التخلي عن العقوبات المفروضة ضد روسيا، على اعتبار أنها السبب الرئيسي في ارتفاع أسعار الغذاء والوقود وتهديد فرص النمو والاستقرار الاقتصادي في أفريقيا. وأدت ضغوط الدول الأفريقية إلى تخفيف العقوبات على روسيا بما يسمح بتدفق تجارة الحبوب والسلع الغذائية إلى الدول الأفريقية والدول النامية بشكل عام.