-->

الغرام الصادق (قصة قصيرة)

هي فتاة حسناء بهية الطلعة من أهل الصحراء الغربية ، اختفت قسرا منذ أن اتضحت
أنوثتها المذهلة ، وأبدت اعجابا بذلك الفتى البدوي الأسمر، الذي ابتسمت في وجهه ، وأومأت له بطرف عينها حين حضر الحساد ... كانوا لصوصا حاولوا إخفاءها عنه من عالم الوجود في أول ظهور لها أواخر ستينات القرن الماضي ، ودأبوا على التعتيم على أخبارها ورميها في غياهب المجهول لوأدها دون حسيب أو رقيب ، ورغم ذلك بات قلبها ينبض في حلكة الظلام ودمسته ، بغرام صادق لفارس أحلامها المنتظر ... فارس شرد بسبب تكالب الحساد وخستهم التي هددته بالإعدام وقررت منعه من التمتع بمحاسن عشيقته وجمالها الفتان ، فظل هائما على وجهه ، يعتصر ألما ، تتقاذفه الأقدار في دروب مضللة ، أبعدته عن التخمين في ذلك الطيف الذي مر كومضة البرق في سماء ملبدة بالغيوم ... لقد حالوا بينه وبينها وحرصوا على منعه من محاولة لقائها ثانية، حتى في المنام... لقد ظلموا العشيقين المعذبين ظلما سافرا ، استحوذ على الكثير من نضارة شبابهما اليافع .
مرت مرارة سنين الجهل والظلام الطوال على ذلك الفتى البدوي البريء كالدهر، وحلت سنين الغضب والأخذ بالثأر على أحر من الجمر ، وأدرك الفتى الأسمر عندما فتح عينيه على العالم من حوله ، أن في بيئته المضطربة كنز ثمين ردمته العواصف والرياح المترددة من كل فج عميق ... لعن حياته الغابرة وجهله المقيت ، وقلة فطنته لما كان يدور حوله على سطح كوكب مترامي الأطراف ... تصنع النوم لإخفاء ما يخالجه عن اللصوص الحاقدين ، فإذا به يغفو هنيهة ، سرقته من واقع الضياع برهة ، ساوره خلالها حلم وردي رائع ، رأى فيه محبوبته تناديه باسم الحب المشنوق ضنكا ، وتستنجده بغية الخلاص من خفافيش الظلام التي عكرت صفو حياتها ... راجع نفسه وتأمل في ذلك الوجه الملائكي الذي بدا خجولا، فقرر أن لا تبقى علاقته به مجرد إحساس عابر لا يرقى إلى الواقع... استذكر نغمتها و ميز لهجتها الحسانية الأصيلة من بين الضجيج الذي كان يعم المكان ، فتفتحت أسارير وجهه حين تأكد مما رأى ، وانبلج فمه عن ابتسامة عريضة من فرط الفرح ، وقد استدرك لتوه معنى الإخلاص ، وقيمة العرض ، وسحر الحرية والكرامة ، وعزة النفس ونخوة الرجولة ، وحلاوة الحياة بعيدا عن الهيام خلف سراب الإغراءات والمناورات ، التي لطالما أوقعته في حب مصطنع زائف ، ضعيف البنية والرابطة مع سفيهات يتقن فن الخداع والإغواء ... على وقع المكر والخديعة آثر المتيم المهموم ، استعادة حب تهاون فيه منذ زمن ، ليظفر في لحظة غضب وسخط على ماض لعين مشوش ، بعشيقته شبه الموءودة ، وقد انسدلت ضفائرها تموجا على جسد نحيف ومنهك من فرط الظلم والاستغلال الهمجي لكل حرف من حروف جماله الجذاب . 
القد تحقق حلم الحبيب وحبه المحفوظ لمولاته التي كانت نسيا منسيا بغير ذنب ، وعظمت إرادتها هي في الزواج من تائه ذاق مرارة العيش حين ضايقه الغرباء ، وفرط فيه الخلان والجيران ... وتلبية لإرادتها ، وتعظيما لحبها الخالد ، انبرى الحبيب الصادق الأمين ، يداوي جراح الماضي التعيس ، ويقومه على دروب الحق والشرعية ، فكان لقاء المحبين لقاءا لا يصدق ، وكان عناقهما عناقا أبديا ، اعتذر فيه العاشق الولهان لعشيقته المتلهفة لضمه بين أحضانها ، عن غيابه الذي كان خارجا عن إرادته منذ أن رآها لأول وهلة ، وسألها عن أخبارها وما حل بها ، وأجابته ببراءة لا تصنع فيها : بعدك أغمي علي ولم أر إلا الظلام ، وكدت أموت لولا أني ظلمت وكان الله في عوني ، فما قدر الله كان ، وما شاء حصل ... إقرورقت عيناه لحكمتها وبكى على كتفيها وتصبب عرقا ونزفت جراحه القديمة دما غانيا ... أحست بشئ من الدفء وتحركت بهدوء تقبل عنقه ، وإذا بها تتبلل دما ودمعا وعرقا ، وعلى عجل سألته ما هذا ؟ ... أجابها محدقا في وجهها ، وغارزا أصابعه في ثنايا شعرها الذي خالطه بعض الشيب : هذا مهرك ... تعجبت ثم ضحكت وقالت في رفق وعطف : تكفيني سلامتك ، فأنت لي وأنا لك ، ودع الحساد يموتون بغيظهم ، أجابها وقد امتلأ قلبه إيمانا وصفاء : دعينا نتزوج وفق شريعة الله وسنة رسوله ، أجابته مبتسمة واثقة : ومن قال : لا ؟ رد عليها وقد كاد قلبه أن يخرج من بين أضلاعه : رضيت بك زوجة إلى الأبد ، رفعت رأسها نحو السماء تشكر الله على تلك اللحظة الميمونة ، ثم أردفت : رضيت بك زوجا إلى الأبد.
تفرغت القضية لحالها ، وتزينت بلحافها التقليدي المعروف ، ووضعت "حفيظتها" الفواحة بعطرها القرنفلي الطيب ، وأرخت جدائلها لتتراقص على كتفي الشعب وتلامس وجهه الناضر المشرف ، لتثير أحاسيسه ومكامنه الخلاقة ، ثم سلمت له جسدها ليتهادى على محاسنه بكل فحولته ورجولته الفذة ، كي يرتاح لأنوثتها الشريفة الساحرة ، ولتعبر له عن قرب ، وهو يضاجعها ويتحسس مفاتنها ، عن مدى عظمتها بوجوده الشرعي إلى جانبها ، يحرسها ويحفظ شرفها ويغير عليها من كل مساس ... طاب سمر العشيقين وهما يستأنسان ويحتسيان كؤوسهم الثلاثة : الشرف والعزة والثبات ، في استرخاء مؤقت ، بعد سهر طال في انتظار صبح جديد ، تسطع فيه الشمس بعد ليلة مقمرة وهاجة ... صبح سيهب فيه الحاضرون في ذلك الزفاف الفريد ، لرؤية جمال العروس في وضح النهار بكل حليها وزينتها التي لا تقدر بثمن ، وليروا وسامة العريس وهو يرتدي "دراعته" البيضاء الناصعة ، " اللي شركت من النيلة " وتحولت إلى زرقة جذابة ، لم يسلم منها وجهه ويديه ، عندما قرر حمل عروسه بين ذراعيه ساعة " الترواح " إلى خيمة الجود والوجود أرض الساقية الحمراء ووادي الذهب ، بمشهد رائع كهذا ، سيدور في ذهن الحاضرين حتما ، سؤال يسأله الصحراويون دوما للعريس في الصبح التالي لليلة الزفاف " أنت حامد وللا صابر ؟ " ولكم أن تتخيلوا الإجابة عند ذلك بحول الله .
محمد حسنة الطالب

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *