-->

مُــراجـعــات في "الـمُؤسَّسة القَبليَّة"

"إنَّ الصِّراع الذي أشرنا إليه بين القبيلة والدَّولة هو صِراع مع الذَّات في الحالة
الصَّحراوية لأنَّه صِراع مع النَّفس الواحدة وفي صَميمها وبالتَّالي لا يُجزَمُ بالمنتصر فيها لِتَجذُّرِ القبيلة الوظيفي في مفاصل الدَّولة ولـمَّا كانَ وُجهاءُ القبيلة وأعيانُها هم أنفُسُهم مُـمثِلوا الدَّولة تكونُ النَّتيجةُ مُرْبِكةٌ جدًّا وهي إمَّا انتصارُ الدَّولة على الدَّولة أو انتصارُ القبيلة على القبيلة وهو الفشلُ بعيْنِهِ".
يَرى بعضُ من نَظَّروا للدَّولة بأنَّ الوطنية والعِرقية هي مُجرَّد مَجموعات تشكَّلت على قاعِدة "نحنُ وهُم" بمعايير بِدائيةٍ مَحْضة ويُفرِّقون بين الوطنية الطَّوْعية وهي أنَّ الأمة شَراكة حُرَّة يَختارُها الفردُ العاقِل طوْعًا وبين الوطنية العُضوية وهي أنَّ للأمَّة طابعٌ ثابت وحتميٌّ يُحدِّدُ أعضاءَهُ ومُنتميهِ ساعةَ وِلادتهم إذْ لا مفرَّ لهم مِنه ونُسميِّ هولاءِ البدائيين وهم أقربُ هُنا في نَظرتِهم هذه إلى نَظرية التَّطور ويُفهمُ مِنها أنَّ المسار التَّطوري يبدأُ بمرحلة ما قبل الدَّولة من عِرقٍ وثقافةٍ وينتهي في الدولة الحديثة وهو ما معناهُ أنَّ المجموعة العِرقية هي أمَّة لم تستيقظ بَعدُ سياسيًا. وخُلاصته أنَّ المجتمعات والأمم ليست"اختراع". لكن الحَداثيين لا يقبلون بهذا الطَّرْحَ البتَّة ويروْنَ أنَّ العالَم لا يتكوَّن مِن أمَمٍ طَبيعيَّةٍ لكن عكس ذلك تمامًا فالأمَّم ظواهِرٌ مُتصادِفة يُمكن أن تحدثَ أو لاتحدثَ لكنَّها مَبنيَّةٌ ومُؤسَّسةٌ في كل الأحوال ويجزمون أنَّ الوطنية ظاهرةٌ حديثة بِطبيعتِها ولكن ليست كل الظواهر الإجتماعية حديثة ولا يُنظرُ إلى كل ما هو حديث على أنَّهُ جديد ويَعتقدون على العكسِ مِن ذلك أنَّ كُـلاَّ مِن الثَّقافةِ والسُّلطةِ أمران دائمانِ ومُعمِّرانِ إلاَّ أنَّ تعاشُقهما في العَصرِ الحديث ولَّدَ الوطنيَّة التي هيَ نِتاجُ ظُروف اقتصادية وسياسيَّة واجتماعيَّة تربُطها رمزيَّة عِرقيَّة.
مِن هُنا بدأ البحثُ عن مفهوم "الهويَّة الوطنية" ولعلَّ فرنسَا أكثر البُلدان التي تجادلتْ مع نفسِها في هذا الشَّأن مُنذُ القرن التَاسِع عشر إذْ تأسَّست الرؤيةُ الـمُعتمدة على أنَّ الأمة لايُمكِنُ أن تؤسَّسَ على عناصر ماديَّة كالجغرافيا والعِرق أو عناصِرٍ اجتماعيَّة كالدِّينِ واللُّغة والمصلحة المشتركة لكنَّها مؤسَّسةٌ على مسار عمل ماضٍ وحاضِر وتسنبِطُ قُوَّتَها مِن "تُراُثٍ جماعيٍّ غنيٍّ بالذِّكريات" وعرَّفوا الهويَّة الوطنيَّة بإرادة التعايُش في تلميحٍ على أحقيتِهم في منطقتيْ لاَلْسَاسْ ولُوريِنْ اللَّتانِ إنتزعتهُما ألمانيا ثمَّ عرَّفوها في الجمهوريَّة الثَّالثةِ تعريفًا حقوقيَّا بالمواليدِ والتَّسجيل الإجباري وأضحى الإنتماءُ للدَّولة يخضعُ للكثير من الألاعيبِ السِّياسيَّة والاقتاصاديَّة الكُبرى.
وبَاتَ جَلِيَّا في كلِّ الأحوال أنَّ هناك رُؤيتيْن مُتباينَتيْن للدَّولة أُولاهما عِرقيَّة ثقافيَّة بمُقاربتيْنِ، بيولوجيَّة تعتمِدُ الهويةُ الوطنيَّةُ فيها على العِرقِ والدَّمِ والإرْثِ البيولوجي وأخرى تاريخيَّة وثقافيَّة تعتمِدُ فيها الهويَّةُ الوطنيَّة على تاريخٍ مُشتركٍ وإرْثٍ ثقافيٍّ ودينٍ و لُغةٍ مُوحَّدة.
وثاَنيِهما سِياسيَّة بمُقاربتيْن اثنتيْنِ ايضًا مدنيَّةٌ نُخبويَّة تعتمِدُ فيها الهويَّةُ الوطنيَّةُ على مشروعِ مُستقبلٍ وإرادةٍ في التَّعايُش وتقاسُمِ قيَّم الدَّولةِ مِن حقوقِ الإنسانِ والمواطنةِ والكرامةِ والإنسانيَّةِ والمساواةِ والعدْلِ وأُخْرى دستوريَّة تعتمِدُ فيها الهويةُ الوطنيَّةُ على وِحدةٍ سياسيَّةٍ تحكُمُها الدَّولة.
وبالرُّغم من كل ما أُسيلَ مِن حِبرٍ في هذا الشَّأن لم يُجمع الباحثون على تعريفٍ شافٍ للهويَّة الوطنية لِسببٍ بسيطٍ لأنَّها ليست حقيقةً علميَّةً فهي تبقى والحالُ هكذا تعبيرًا سياسيًّا خالِصًا
أعرِفُ أنَّ ساركوزي سياسيُّ مثيرٌ للجدلِ لكنني أتَّفِقُ معهُ بأنَّ الدَّولة لا تعترفُ بأي مجموعة وسيطةً بينها وبين الفرد الذي يبقى الـمُحاورُ الوحيدُ الذي تقبلُه وإن جاءَ ذلك في سيَّاقِ حملتِه الانتخابيَّة ضِدَّ الاشتراكيَّة سيقولانْ روايالْ لإستمالةِ اليمين المتطرِّف عام 2007 بُغيةَ الظَّفرِ بعُهدةِ أخرى مِن خمسِ سنوات. ويعودُ بِنا هذا إلى 1881 لـمَّا تورَّطت مجموعة إيطاليَّة في شِجارٍ في مرسيليا وهي المجموعة العِرقية الدَّخيلة والقويَّة في جنوب شرقِ فرنسا والتي عُدَّت حينئذٍ "أمَّة داخل أمَّة" وهو ما إستدعى استئصال هذا النَّوع من النَّزعات واستصدار قانون الإقليم أو قانون المواطنة بالولادة Jus Soli الذي عُدِّل بعد ذلك بقانون الدَّمJus Sanguinis 1889 بحصول المواليد على الجنسية حسب دَمِ أبائهم. 
ما ذا عنَّا نحنُ الصَّحراويين في تجربنِتا الفتيَّة؟ ماذا بَنيْنَا في جواهرِ أنفُسِنا: دولة أم إتحاد قبلي أم لفيفٌ مِن الإثنيْن؟ 
كان ساركوزي يقصدُ بالمجموعة الوسيطة الهويةَ الجماعيةَ وكان يُشيرُ بالأصبع إلى مجتمعات المهاجرين التي تشكلَّت وتفرَّدت داخل الجمهورية الفرنسية وأصبحت كيانًا مُستقِلاً يُحاوِرُ الدَّولةَ ويُمثلُ الأفرادَ ووظَّفَ في وصفِه ذاكَ كلمةَ زواجُ الأقارِب Endogamie إشارةً إلى نشأة هذه الظَّاهرة واستمرارها.
إلتفتُّ إلى بعضِ قُصاصات التَّاريخ المعاصر واكتشفتُ أنَّ تجربتَنا فريدةً ذلك أنَّنا اعتمدنا ثلاثة نُظُمٍ مُتباينة في قالبٍ واحد وهي الثَّورة والجمهورية والقبيلة.
وما يَعنينا مِن شأنِ ساركوزي في هذا المقام أن نُسْقِطَ رُؤيتَه على نِظامِنا الحالي أي أنْ نَضعَ القبيلةَ محلَّ المجموعة الوسيطة ولِنُسمِّيها سياسيًا الهوية الجماعية ونرى ما يكونُ مِن شأننا!
أنا لا أرى بأسًا في أن تكون لكلِّ واحدٍ مِنَّا قبيلة فذلك مِن شرعِ الله وسُنَنِهِ في خلقِه لا مُبدِّلَ له فهي تأويهِ وله مالَهُ فيها وعليه ماعليه مِنها من صِلةِ الرَّحِم والعقيقة والزِّيجة والصَّدقةِ والصَّداقة والزَّكاة وعيادة المريض فهي تتماهىَ معنا تماهي الرُّوح مع الجسد، لكنني أرى بأسًا في تعريفِ المواطنةِ وأسألُ هل القبيلة مواطن؟ وإن كانَ كذلك فما هيَّ حقوقه وما هيَّ واجباته؟ وأين تتموقعُ القبيلةُ في رُقعةِ الحاكِمِ والمحكوم؟ وهذا هو بيتُ القصيد.
وقبل أن أخوضَ في ذلك لا بُدَّ أن أمُرَّ ولو بِجرَّة قلمٍ وأُعطي أمثلةً حيَّةً تُغنينا عن الكثيرِ مِن الكلام ذلك أنَّ الدُّول التي أُسِّست على القبيلة (اليمن وليبيا) والطَّائفة (سوريا والعراق) قد انهارت في أقلِّ من اربعة وعشرين ساعة من بدءِ الإضطرابات فهشاشة هذا النَّوع مِن النُّظم لا تُخطئها العين ولا تخفى على الـمُبصرين كما لايَخفى على أحد صُمودَ دوَّل أخرى كالجزائر ومصر وتونس في وجهِ عواصف هوجاء وهذا طبعًا بغضِّ النَّظر عن شرعية ما جرى من عدمه في كل دولة على حدى إذْ إنَّ ما يعنينا هنا هو "الدولة".
نحنُ نعقِدُ مؤتمر الجبهة وننتخِبُ حكومة الجمهورية ونُنْصِفُ القبيلة. وكلُّ هذا في جلسةٍ واحدة وفي قاعةٍ واحدة.
صحيح أنَّ في هذه الخلطة العجيبة ما يُرعِبُ. فأنا لا أُنكِرُ أنَّ هذه المحاورُ الثَّلاثة فتحتْ ثلاثة جبهات على العدو- ودون أن ندري - شتَّتتْ تركيزَهُ وبدَّدتْ جُهودَهُ فصارَ يُحاربُ الجبهةَ والجمهوريةَ والقبيلةَ على كلِّ الأصعدة والمستويات وكلَّفه ذلك ما لم يكُن في الحُسبان.
نَعرِفُ جميعًا أنَّ النُّظمَ السِّاسية في حِلَّتها الحديثة إمَّا وطنيةً وحْدويةً كفرنسا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا واسبانيا تتمتعُ بلامركزية جهوية تتَفاوتُ مِن دولةٍ إلى أُخرى وإمَّا فِدراليَّة كالولايات المتُحدة الأمريكية والأرجنتين وأستراليا والبرازيل وكندا والهند وروسيا التي تتقاسَمُ فيها السُّلطة المركزية الحُكمَ مع السُّلطات الجهوية. وعلى النَّقيضِ من ذلك فالقبيلة هي أقدمُ هذه النُّظم على الإطلاق تحكمُها روابطُ الدَّمِ ويُسيطرُ عليها الذُّكور وتَحتكِمُ للعادات والأعراف والدِّين. للدَّولة رئيسٌ مُنتخبٌ يُمثِّلُها ولها رئيسُ حكومة يتولَّى السُّلطات التَّشريعية وفي بعضِ البُلدان تتساوى هاتانِ المهمتانِ وتؤولُ السُّلطة في كل الحالات للشَّعب ويعلو القانون فوق كلِّ الموسَّسات بينما يرِثُ الوارثُ سلطةَ القبيلة من أبيه ويحكُمُ بمزاجِه وشأنُه شأنُ النُّظم الشُّمولية التي يرثُ فيها الديكتاتورُ باسم "القائد و الزَّعيم". ولِنكُن صريحين نُلخِّصُ بانوراميًا هذه النُّظم في أربعة: العصابة والقبيلة والزَّعامة والدَّولة.
وإذا كانت القبيلةُ جزءًا شرعيًا من نِظامِ الدَّولةِ فإنَّ ولاءَ الفردِ يتشتَّتُ لامحالة بينهما وربُمَّا يكون لشيخ القبيلة في أغلب الأحوال إنْ لم يكن دائمًا وتكون الدَّولة بناءً على ذلك عدوًا أو على الأقل خصْمًا لدودًا إذا كان الفرد يحظى بالإستقرار النَفسي وعاطفة الجماعة وهو الأمرُ الذي يجعلُه يلتفِتُ إلى القبيلة في أوَّل مأزقِ يواجههُ. فوالي الوِلاية شيخٌ بمفهوم الدَّولة والشيخُ والٍ بمفهوم القبيلة. فالوالي هو الآمرُ النَّاهي ولديهِ أدواتٌ قوَّة وردعٍ مُخوَّلة لبسطِ أوامِره ونواهيه والشَّيخُ لديه أدواتُ القرابة والدَّم والحِمْية والتَّبرك والكرم والكرامة.
أرى أنَّ القبائل على هذه الحال "مَلَكيَّات صغيرة" مُتصالحة مع الدَّولة وتتعاملُ معها بسيَّاسة الماءِ والكلأ وهي كيانات مرِنة مُسالمة وغير مُبالية وقتَ الرَّخاء ونافرة ومُستعصيَّة وقتَ القحطِ والجفافِ يستعمِلُها "المنتمون" خطًّا دفاعيًا أخيرًا .
والـمُتأمِّل في حالةِ اليمن بنِصفيْه يُدرِكُ شيْئًا مما نعنيه. ففي اليمن الشَّمالي كانت القبيلة هيَّ الدَّولة وحوَّلت قوى اليمن الجنوبي اليسارية الدَّولةَ إلى قبيلة لكل مواطنيه. تصارعتْ قبائل شمال اليمن وتهارشت وضاع كِلاهما وعاشت قبائل الجنوب على الإغتيالات ولقت مصيرَ مُثلياتِها في الشَّمال وهكذا فشلتِ القبيلةُ في قيادةِ الدَّولة في الأولى وفشلتِ الدَّولة في قيادة القبيلة في الثَّانيَّة. والنتيجة تيهان اليمنيين في البحثِ عن الوجود بين الدَّولة والقبيلة.
وتُفرِزُ جدليةُ الدَّولة والقبيلة الكثيرَ مِن المواد السَّامة والقاتلة تتمحورُ خاصَّةً في بحثِ القبيلة عن القيمة المعنوية المنشودة داخل الدَّولة وإنْ لم تحصل عليها بالمجَّان أو بالعطيَّة تلجأُ إلى اختراق مؤسَّسات الدَّولة والتَّحامل عليها بعقدِ تحالفات مع قبائل أخرى وفي الوقتِ ذاته تسعى الدَّولةُ جاهِدةً إلى كسْبِ ودِّ القبيلة واحتوائها وضمانِ ولائِها وهكذا دواليْك تتعايشُ الدَّولة مع القبيلة ويتناغمان في بانوراما لا يُفرِّقُ فيها المراقبُ بين دولة القبيلة وقبيلة الدَّولة كما أسْلفنا.
إنَّ ادخال النُّخب القبلية إلى منظومة الحكم خطأٌ فادِحٌ ارتكبته بعض النُّظم العصرية لسْنا بمنأى عنها لأنَّ فيه سوء قراءة لسيكيولوجية القبيلة ووعيها السيَّاسي الذي يرى في الدَّولة مرتعًا مُباحًا وغنيمةً حلالاً ذلك أنَّ العقليَّة القبليَّة مَسْكونةٌ بهاجس التَّنافس على الموارد الشَّحيحة والنَّتيجة المنطقية هي تزايد ثروة شيوخ القبائل أو من يُمثِّلُها وتعاظم سُلطانهم ممَّا جعلَ مِنهم قوَّةً رادِعةً تحسِبُ لها الدَّولةُ ألف حساب ويتلازمُ هذا مع رفضِ القبيلة لأي شيئٍ من شأنه أن يُقوِّض قوَّتها أو يُقلِّصَ نفوذها وبالتَّالي فإنَّ نجاح الدَّولة من عدمِه لا يَهُمُّ القبيلة في شيئ لأنَهّ يأتي بطبيعة الحال في آخر سُلَّمِ أولوياتها بقدرِ ما يهُمُّها ما تحْصُلُ عليه من غنيمةٍ وهو ما أصبحنا اليومَ نُسمِّيه توريةً "الـمُحاصصة" وسلَّمنا بموجِبهِ "للمؤسَّسة القبلية".
إنَّ وجود مؤسسات تقليدية كمؤسسة القبيلة في قلب الدَّولة يقفِ عائقًا قويًا ضد عصرنتها خاصَّة إذا قبِلتْ هذه الأخيرة القبيلةَ مُحاورًا ومدافعًا ومرافعًا عن الأفراد في وجْهِ العدالة وسُلطة الدَّولة وتَضعُهُ في مواجهةٍ مباشرة ٍمع قُوات الأمن من دركٍ وشرطةٍ وجيش.
إنَّ وجود برزخ القبيلة بين الدَّولة والمواطن حجبَ عنه رؤية المؤسسات الحقيقية وأجبره على اللَّعب في مساحات ضِّيقةٍ بحجم القبيلة وأقربُها إلى أعْيُنِنا الولاءات في الإنتخابات البرلمانية والجماهيرية والعامَّة في الـمؤتمرات وغيرها من المناسبات الإنتخابية ويظهرُ ذلك جليًا في أنَّ عدد الشيوخ والرُّموز القبلية يفوق عدد النُّخبِ المثقفة والتكنوقراط الجدد.
إنَّ تفعيل "الـمؤسسة القبلية" بعد انقضاء عملية تحديد الهُوية يُعدُّ تهديدًا للمرحلة الانتقالية والطُّموح إلى ارساء دولة مُستقلَّة مدنية ومُعاصرة كما يُعدُّ وأْدًا لثقافة الدَّولة والـمؤسسات المدنية التي كلَّفتنا الغالي والنَّفيس من أجل الأخذ برأس الخيطِ مِنها.
إنَّ اخراج القبيلة مِن مَعقلِها الاجتماعي والزَّج بها في أتون السِّياسة ولَّدَ لدى كثيرين من الجيل الثَّاني خلخلة في الثِّقة في الدَّولة وريبةً في كلِّ ما يَصْدُرُ مِنها وشوَّشَ على الجيلِ الثَّالث بِكامِله الذي فتحَ عيْنيْه وعقلَه على القبيلة تمرحُ وتموجُ في المجال العام.
الـمُسلَّمُ والشَّاهدُ هنا هو تناقض وجود القبيلة مع وجود الدَّولة فهُما مُتنافران من الأصلِ فلا بُدَّ أن يُفْنِيَ الواحدُ الآخرَ والسُّؤال الذي هو بين أيدينا من يَنتصر ولمن يكون البقاء: للدَّولة أم للقبيلة؟
لم تُحدِث المحاولات المتكرِّرة التي قامت بها الجبهةُ على مدى عقود لكسر شوكة العشائرية أي أثرٍ يُذكر وذكَّاها الثُّلاثي الأخير من 1988 وتحديدُ الهُوية لاحِقًا ودفعاها إلى الواجهة في فترات عِديدة مما خلق شعورًا جيَّاشًا عند بعضنا بقوة مفرطة للقبيلة تجاوزت في مخيلتهم قوة الدَّولة وإمكانياتها.
إنَّ الصِّراع الذي أشرنا إليه بين القبيلة والدَّولة هو صِراع مع الذَّات في الحالة الصَّحراوية لأنَّه صِراع مع النَّفس الواحدة وفي صَميمها وبالتَّالي لا يُجزَمُ بالمنتصر فيها لِتَجذُّرِ القبيلة الوظيفي في مفاصل الدَّولة ولـمَّا كانَ وُجهاءُ القبيلة وأعيانُها هم أنفُسُهم مُـمثِلوا الدَّولة تكونُ النَّتيجةُ مُرْبِكةٌ جدًّا وهي إمَّا انتصارُ الدَّولة على الدَّولة أو انتصارُ القبيلة على القبيلة وهو الفشلُ بعيْنِهِ.
إنَّ تحوُّلَنا الجزئي للدِّيمقراطية باعتماد منظومة الانتخابات أذكى نارَ القبلية الخامدة وبدى مُبرَّرًا عند بعض رؤوس الدَّولة خاصَّة تلك الفئة التي ترى في المحصاصة القبلية ضامِنًا وخلاصًا اجتماعيًا لمعضلة "الوحدة الوطنية" وهو ما رسَّخ "القبلية السِّياسية" وأعطاها أبعادًا وأضفى عليها شرعيَّة خرجتْ فيما بعد عن السَّيطرة وانقلبت بوجه أو بآخر على شرعية الدَّولة.
مازالت علاقة الدَّولة مع القبيلة كعلاقة الرَّاعي مع الإبلِ الهمْلى والـمُسيَّبة والضَّوالِ فبالرَّغم مِن التَّمدن النِّسـبـي الذي نعيشُه مازالت الدَّولةُ والقبيلةُ في مواجهةِ افتراضيَّة نظرًا للتَّبايُن والإختلاف التَّنظيمي والوظيفي بينهما ذلك أنَّ الدَّولة تتعاملُ بالوثيقة والمؤسَّسات والقبيلة تتعاملُ بطبيعتِها الشَّفهية وهنا وقعتِ الطَّامة الكُبرى وهي قَبول الدَّولة لبعضِ الشَّخصيات التي زكَّتها القبيلة دون براهين ملموسة وموثوقة واقحامهم في مواقع التَّسيير وصِناعة القرار.
وكما يرعى الرَّاعي الهوامِلَ والضَّوالَ افتراضيًا لمعرفته بأوكارِها فقد رعت الدَّولةُ القبيلةَ افتراضيًا لمعرفتها بأوكارها وتركت لها فضَّ النِّزاعات والخصومات والدِّيات وحتى الكثير من الجنحِ والجنايات وأرْخَتْ لها العَنانَ غالبِ الأحيان في سنِّ قوانين العقيقة والزِّيجة وضبطِ مراسيمهما حتَّى أصبحت القبيلة مؤسَّسة قضائيةً بامتياز تُنافسُ فطاحلة القُضاة والـمُستشارين الذين انفقنا على تكوينهم أموالاً طائلة.
القبيلة لا تحملُ فكرةً ولا أيديولوجيَّةً ولا برنامَجًا سيَّاسيَّا ومع ذلك اصررْنا على اقحامها في المعترك السِّياسي وهو ما قدْ يُصيبُ آمالَنا في بناءِ دولة حديثة في مقْتل لأنَّنا بكل بساطة وضعْنا مفهوم العصبية والمواطنة في كفَّةٍ واحدةٍ.
أعادَ عَدمُ استكمالِ مؤسَّساتِنا المدنيةِ وتفعيلِ دورِها في التَّواصلِ الحياةَ للقبيلةَ ودفَعَ الدَّم في عُروقِها وجعلَ مِنها مرْجعًا وبديلاً منطِقيًا وربَّما وحيدًا للأفراد للتَّواصل والبحث عن الحلول. وخلَقَ هذا الفراغُ حلقةً مفقودةً قطعت الطريق على الأفرادِ وجعلتهم يرجعون مِن حيثُ أتوْا "إلى القبيلة" ورسَّخ في أذهانِهم أهميَّتها وأعْمَلَ في خواطِرِهم الإحتياجَ الدَّائمَ لها ويكون بذلك قد قزَّمَ الدَّولة وعظَّمَ القبيلة.
خلاصة:
إنتهى عهد التَّسيُّب القبلي بمفهومِه البِدائي من سبـْيٍّ وغزوات لكنه لم ينْتهِ في عصر الدَّولة التي حلَّت محلَّ القبيلة إذْ أصبحت القبيلة مؤسَّسة من مؤسسات المجتمع المدني لها تمثيل برلماني ومحاصصة في السُّلطة وهو ما أُسمِّيهِ التَّسيُّب الديمقراطي. ولَّدَ هذا التَّراتُب حالةً هجينةً جعلت مِنَّا دولةً حديثةً في حِلَّةٍ بدائية ووضعتْنا في منطقة رمادية بين الدَّولة والقبيلة تتنافى مع أسس ومباديء أنموذجات الدُّولِ النَّاجِحة.
لكن المفارقة في الحالة الصَّحراوية على خِلافِ الكثيرِ مِن التَّجاربِ هي أنَّ القبيلةَ لم تؤسِّس للدَّولة ولا للجبهة ويبقى السُّؤال المطروح في نهاية المطاف أيُّهما جذب الآخر وكيف؟ وكيف نفُكُّ الارتباط بعدما ثَبُتَ تصادم القبيلة والدَّولة؟
إنَّ الـمُحاصصةَ القبليَّة تعني عَمليًا رسمَ جغرافية القبيلة وتعْيينِ حُدودِها والتِّي بِدورِها تعملُ دونَ هوادة على حمايتِها إنْ لم تستقتِل في توسيعِها على حِساب الآخرين وعلى حِساب الإنتماءات المؤسَّساتيَّة المبنيَّة على مبدأ المواطنة. 
واخلُصُ إلى القولِ أنَّه يجبُ سحب القبيلة مِن العملِ السَّياسي ووضع حدًّ لـِتَغـوُلـِها على مؤسَّسات الدَّولة والاحتفاظ بها في صَوْنِها الاجتماعي والتَّوقُف الفوري عن الاستثمارِ السِّياسي فيها فمِن البديهي أنَّ حدود القبيلة لا يُمكن أن تؤسِّسَ لحدود دولة وأرضِيتُها الضَّيقة لا تتسِعُ لمشروعٍ بحجمِ أُمَّة.
بقلم: نافع محمد سالم سيدي

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *