-->

العيد في الكركرات


" أهدي هذا النص إلى مقاتلينا الأشاوس المرابطين في الجبهة الأمامية بـ "الكركرات" بمناسبة عيد الأضخى المبارك..تقديرا وعرفانا" ..
يوم العيد هنا مجرد يوم آخر يشبه بقية الأيام التي تتوالى تأخذ من عمره ولا تأخذ بلبه. لا شيئ يميز العيد في هذا البلد النائي الذي لم يدخل الإسلام بيوت السواد الأعظم من أهله. هنا تستحيل طقوس العيد وأجواءه وأفراحه رجع ذكرى لا غير!
في هذا البلد القصي يصبح وجع الحنين و الحزن الرمادي المتمدد مع شرايين القلب والشوق المكتوم والرغبات المؤجلة، كل ذلك يضحى توليفة الغربة التي تماهت مع أيام حياته التي قضاها ترحالا بعيدا عن الأرض و عن الأهل.
كان يجر الخطى على غير هدى والقلب يراقص مذبوحا "..بأي حال عدت يا عيد...." دندنة لا تكاد تبين. 
يتوقف فجأة على صوت رنة هاتفه، ميزها جيدا؛ تلك رنة رسالة واتس آب.. فتح هاتفه وقربه من عينينه ليقرأ الرسالة: " السلام عليكم..مبارك العيد والمسامحة. انخطي لك ذا التسجيل مشاه لك صاحبك المحفوظ". 
المحفوظ صديق الطفولة يرابط ضمن كتيبة من المقاتلين في الكركرات. صديقه المشاكس المشاغب مرادف للحياة بالنسبة له، فحيث يحل يملأ المكان صخبا؛ يلاعب هذا ويستفز ذلك و يناوش ذاك. صديقه يكره الخوض في السياسة، إلا ما تعلق بالأرض والقضية، لا يحب الإستطراد والتحليل المستفيض، ميالا إلى الأدب ويحفظ عن ظهر قلب الكثير من الشعر الحساني، خاصة ما تعلق بغرضي الغزل والأطلال.. وحين يستبد به المقام شوقا أو حنينا تجود قريحته ب"طلعة" يتيمة لا يزيد عليها.
رسالة المحفوظ الصوتية القصيرة أشعلت في قلبه الموجوع نارا ظنها قد خمدت ؛ " يا اصويحبي للعيد في الكركرات طعم خاص،طعم مميز؛ ها أنذا مع صحبي نتنسم هواء المحيط ونتوسد أرض تيرس المقاومة والعزة ، ونقف على بعد أمتار من قوات العدو الجبان وقلوبنا مثل مدافعنا تتحرق شوقا للقاء العدو ..كم وددت يا اصويحبي أن تكون بيننا لتتذوق طعم كسرة لفطير و امريفيسة و كأس الشاي الصحراوي المميز ولبن النوق الطازج..ذا كامل رانا أمشيين لك ثوابو بعد..هههههه" ويستطرد المحفوظ؛ "في الكركرات وحدها تتنصل الرياح والشمس المحرقة و شظف العيش من صفاتها السلبية؛ في الكركرات تستحيل الريح نسيما و الشمس دفئا وشظف العيش يستحيل حياة هنية.. يحدث هذا في الكركرات فقط" 
" في الكركرات ندعو الله في صلاتنا أن يخطئ العدو تقدير الموقف، وأن يتهور حتى نكون أول من يطلق شرارة معركة النصر، فقد سئمنا عجرفة الغازي وصلفه". ويختم كلامه " صرتك يالعيد إلى عاد خالك ألا راه لك بعد فالكركرات "
الرسالة غير المتوقعة تأتي على هدوئه المصطنع.. يستبد به الشوق ويمزقه رجاء بعيد المنال؛ رجاء أن يكون بين صحبه في الكركرات!
يفتح هاتفه على الواتس آب ويسجل رسالة لصاحبه؛ " سعدك ألا أنت يالمحفوظ.. يغير لاتنسى عن انهارات العيد أثلاثة..فاليوم التالي حسبو علي لاهي انكركس عليكم فم..وعنكم لا أتكسو أتاي، راني نبغي أتاي ألا حلو..الله يحلي أيامكم" ويرسل الرسالة..والقلب يسابقها، أما خياله الخصب فقد سرح به بعيدا؛ إلى حيث أحبة يرابطون عند الخطوط الأمامية في الكركرات.. ألفى نفسه يقاسمهم رغيف "كسرة لفطير" و يختطف من المحفوظ مشاكسا "كاس أتاي"، وضحك الرفاق يملأ المكان، وهو يشاركهم الضحك بابتسامة خجولة سرعان ما تصبح قهقهة تضج بالحبور وبالحياة.
في الطريق يصطدم بجسم أصدر أصواتا بالكاد ميزها - لانهماكه مع الرفاق - ؛ 
"Abre tus ojos señor!" 
"Oye! Estás bien?!”
" افتح عينيك يا سيد".. " هل أنت بخير؟!"
يعتذر للشخص وهو يشعر ببعض الإحراج وقد قبض عليه "متلبسا" بحلم يقظة جميل. علم أنه لم يبرح مكانه، لا زال في بلد قصي تفصله آلاف الكيلمترات عن الكركرات!
مساحة الوجع تتسع ونيران الشوق تزيد اشتعالا تعبث بجوانحه والحنين يستبد به، يمزقه شر ممزق والعين المتواطئة ترسل دمعة فضاحة تمسحها أصبع سبابة متشنجة تتحرق شوقا لملامسة الزناد.
فتح عينيه؛ المارة والشوارع والوجوه كلها تنبئ بيوم عادي لا صلة له بالعيد..العيد في مكان آخر يعلمه هو. يفتح رسالة صاحبه مرة أخرى، لم تكن الأخيرة، وقد وجد نفسه مدفوعا بقوة لا تقاوم لاستعادة تفاصيل لم تذكرها الرسالة..ويغمض عينيه ثانية ليعيش حلاوة العيد في الكركرات.
تمت.
محمد اسلامة الداهي.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *