-->

الثورات المضادة وإفشال مسعى الانتقال الديمقراطي في بلدان الربيع العربي


منذ اللحظات الأولي لاندلاع الانتفاضة الشعبية في تونس بعد إقدام "محمد البوعزيزي" على حرق نفسه احتجاجا على مُصادرة عربة الخضار. التي كانت مصدر رزقه الوحيد,حتى امتد لهيب هذه الاحتجاجات ليعم كل المناطق التونسية دون استثناء ثم تحولت في ظرف وجيز إلى ثورة عارمة- شاركت فيها كل أطياف المجتمع التونسي وتشكيلاته السياسية والمجتمعية,واصطلح على تسميتهَا "بثورة الياسمين"، ورغم القمع الذي واجهتهَا بها قوات الشرطة والدرك بتعليمات من الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الذي تحولت تونس في عهده لبلد يحكمها نظام تسلطي استبدادي ديكتاتوري فاشي. شن حملة مسعورة عَلى كل مقومات المجتمع التونسي مستهدفًا ارثه الحضاري والديني حيث حصر الشعائر الدينية في أداء الصلوات الخمس فقط 
ووضع دور العبادة والأئمة تحت مراقبة أجهزة الأمن اللصيقة وتحول المواطن التونسي في عهده لإنسان منسلخ عن ماضيه وعقيدته، ومنع أي تعاط في الشأن السياسي الداخلي وامتلأت في عهده السجون والمعتقلات بالنشطاء الحقوقيين والسياسيين وكان اليوم الذي أعلنت فيه وسائل الإعلام التونسي هروبه إلى المملكة العربية السعودية بعد أزيد من23سنة حكم فيها البلاد والعباد بلغة الحديد والنار,ومنع أيَّ تحول ديمقراطي طبيعي للنظام السياسي فيها,ليتنفس أهل تونس الصعداء برحيله، وتبدأ البلاد مرحلة التَأسيس لمَا أطلق عليه اصطلاحًا "الجمهورية الثانية",وسرعان ما امتد لهيب هذه الثورات ليطال دولاً عربيةً
كانت يظن الجميع بأن التغيير فيها شبه مستحيل بل ضرب من الجنون,كانت تلك الدولة هي مصر بكل ما تحمله من إرث حضاري عريق. والتي يحكمها "نظام حسني مبارك "بقبضة فولاذية منذ أزيد من30سنة هي المحطة التالية لثورات الربيع العربي,حيث خرج الشباب المصري في مظاهرات مليونية واحتلوا شوارع القاهرة. وساحاتها وميدانها الرئيسية، وأهمها "ميدان التحرير- ورمسيس",ورفعوا شعارات تنادي بالحرية- والعدالة الاجتماعية- والحريات الفردية المكفولة دستوريا ،لتسلط عليهم أجهزة أمن الدولة والشرطة ويسقط العشرات شهداء برصاص قوات الأمن. فيما وقف الجيش كما في الحالة التونسية على الحياد ويضطر "الرئيس المصري" "جمال مبارك"إلى التنحي تحت ضغط الشارع المصري بعدما خذلته الولايات المتحدة الأمريكية التي رأت في بقاءه خطرًا يُهدد وجودها ومصالحهَا الحيوية في مصر,ليستقيل مبارك مجبرًا ويسلم الحكم للمجلس العسكري والذي أجرى انتخابات ديمقراطية نزيهة، باعتراف المراقبين الدوليين وانتخاب الرئيس الإخوانى محمد مرسي العياط كأول رئيس منتخب بطريقة ديمقراطية في تاريخ مصر الحديث,ولم تقف الثورات عند مصر بل امتد لهيبها إلى الجارة ليبيا التي واجهتها قوات الجيش والشرطة والمرتزقة واستعملت الرصاص الحي ودكت أحياء وقرى بأكملها ،للتحول إلى انتفاضة شعبية مسلحة
وتقود كتائب الثوار المسلحة عمليات عسكرية نوعية بدعم من دول عربية وحلف الناتو ليحتل هؤلاء العاصمة طرابلس ويستولوا على" باب العزيزية" مَعقل ألقذافي وملاذه المتبقي,ليزول حُكمه ويستسلم عددٌ كبير من أزلامه و أفراد قواته المسلحة ,ثم بعد أيام من ذلك يُعتقل ويعذب ويعدم في "مدينة مصراتة الليبية"، بطريقة بشعة ومهينة صدمت الرأي العام الدولي,ويغتال بعده عددٌ من أولاده وأقاربه وعلى رأسهم "ابنه معتصم ألقذافي" الذي امسكه الثوار وكان مصريه أبشع من مصير والده,لتدخل البلاد بعد "تشكيل مجلس وطني انتقالي" في دوامة من المواجهات والحروب لم تنتهي إلى ألان رغم كل المؤتمرات الوطنية. والدولية التي عقدت أخرها "مُؤتمر المغرب" لمعالجة الأوضاع السياسية في البلاد حيث أصبح هناك حكومة برأسين وبرلمانيين، وكتائب حولها متنازعة متقاتلة حول النفط والثروة والسلطة. وزاد الطين بلة دخول داعش وجماعات إرهابية متطرفة .على الخط واستيلاءهَا على مناطق ساحلية مهمة في ليبيا,وفي اليمن لم يختلف الأمر كثيرا فبعد أنْ صمد الشباب اليمني شهورًا في الساحات والشوارع 
وسقط منهم مئات الشهداء واضطر الرئيس "اليمني عبد الله صالح"إلى التنازل عن الحكم لنائبه "عبد ربه هادي منصور"، بضغط من المؤسسة العسكرية التي انشق أهم قادتها وهو اللواء ا لركن "علي محسن الأحمر" "قائد الفرقة المدرعة" ,ثم سرعان ما أصبح مستشارا أمنيًا لدى الرئيس عبد ربه منصور ها د ي وبعد أن تعرض علي عبد الله صالح لقذيفة صاروخية أصابت القصر الجمهوري وكاد ت تؤدي إلى وفاته لتعالجه الرياض ,وليوقع على وثيقة التنازل بحضور جمع غفير من رؤساء الأحزاب والأجهزة الأمنية .ورؤساء العشائر والقبائل اليمنية,ولكن سرعانَ ما استولى الحوثيون علي السلطة 
وعلى رأسهم "عبد المالك الحوثي"، و الذين تم تهميش دورهم في اليمن سياسيًا. و من ثمَّ إقصاءهم عمدًا من العملية السياسية بأوامر أمريكية خَليجية .لتندلع مواجهات عسكرية بين الحوثيين، وقوات عبد الله صالح الموالية لهم من جهة,وبين قوات عبد الله هادي مَنصور وقسم من قوات الجيش اليمني مدعومة بتحالف عربي بقيادة السعودية، والإمارات ويضم قوات دول عربية ترى مصالحها الإستراتيجية والسياسية مع الرياض وتخاف من أن تطالهَا ثورات عربية مماثلة,أما في سوريا فالأوضاع تختلف كليةً إذ بعد اندلاع شرارة الاحتجاجات السلمية في درعاَ، بدأت السلطات السياسية في البلاد تحاول احتواءها وأعلن "الرئيس بشار الأسد" حزمة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية ولكن خرجت الأمور عن السيطرة وتم تسليح المعارضة السياسية وتحويلها إلى معارضة مسلحة، وتم تأسيس "فيالق الجيش السوري الحر" و"تشكيل ائتلاف وطني" مؤقت اعترفت به أزيد من 110دول كممثل وحيد للشعب السوري قبل أن تتراجع معظمهَا عن ذلك, لتدخل التنظيمات الإرهابية على الخط وعلى رأسهاَ القاعدة ،وداعش، والنصرة وتُشّكل كتائب وميليشيات -ضمت مقاتلين من 83دولة لتتحول الثورة إلى حرب دامية تستهدف تدمير سوريا كدولة. وإسقاط نظامها السياسي بالقوة كما فعل الأمريكان من قبل في العراق,ولكن الشيء الذي يطرح عدة تساؤلات وهو لماذا فشلت الثورات العربية في تحقيق عملية التحول الديمقراطي فيها وتحويل بلدانها من دول ديكتاتورية متخلفة ،لدول تخطو أول خطواتها نحو نظام سياسي ديمقراطي تكون فيه عملية التداول السلمي السلس على السُلطة ,هذا ما دفع عدة باحثين أكاديميين ومنهم "الدكتور برهان غليون "على التَأكيد بأنَ دولاً عربية وإقليمية تحاول بشتى الطرق منع التحولات الديمقراطية في البلدان العربية
التي تمتلك من الطاقات والكفاءات الوطنية في الداخل والخارج ومن الموقع الجيواستراتيجي ومن الثروات الطبيعية والباطنية، ما يُؤهلها للعب دور فعال وقوي في السيَاسة العالمية,فهناك دول كإسرائيل وأمريكا والإمارات والسعودية ،حولت هذه الثورات عن مساراتها وحولتهَا إلى ربيع عبري بدل عربي,وأنتجت لنا ما عرف بالثورات المضادة والتي كانت من بنات أفكار "الفيلسوف الصهيوني الفرنسي" "برنارد ليفي" الذي اقنع القادة السياسيين في ليبيا وعلى رأسها "مصطفي عبد الجليل"، بضرورة الاستعانة "بحلف الناتو "والتدخل الغربي لأنَ الثوار لنْ يستطيعوا إسقاط "معمر ألقذافي" الذي كشفت وثائق مسربة من ويكليكس أنهُ قد اشتري أسلحة وذخائر بملايين الدولارات من إسرائيل وقنابل حارقة من أجل ضرب المتظاهرين السلميين في بنغازي ،والزنتان، والجَبل الأخضر وغيرهَا 
من مناطق بداية الاحتجاجات السلمية ولم يعد يخفى لأحد دعم الإمارات التي أرسلت مؤخرًا. أكثر من 100عربة مدرعة إلى "اللواء خليفة حفتر" المحسوب على الرجعية العربية ،من أجل إعادة ليبيا إلى حكم العسكر والدكتاتورية ,كما كانت سابقًا وليس هذا فقط بل عندما عجزت حاولت التأثير على المُجتمع الدولي من أجل التدخل مرة ثانية في ليبيا لتخلص منْ تنظيم داعش والإرهاب، الذي غذته في مناطق واسعة منها وسمعنا مؤخرًا عن عزم قوات فرنسية أمريكية، انجليزية روسية مشتركة. التدخل البري والجوي في البلاد تحت "ذريعة مكافحة الإرهاب الدولي"، ولكن الهدف الرئيسي هو إعادة استعمارهاَ، ووضع حكومة طيعة عميلة فيها كما فعلوا مع اليَمن والعراق.وعدة دول طوال 50سنة الماضية,وفي مصر فالوضع ليس أحسن حالا إذ قام "وزير الدفاع المصري" "عبد الفتاح السيسي" مدعومًا من الإمارات ،والسعودية وإسرائيل وأمريكا بإفشال أول تَجربة ديمقراطية حقيقية ونفذ انقلابا عسكريًا. يوم 3جوان2013, وسلم السلطة إلى "رئيس المحكمة الدستورية" "المستشار عدلي منصور"، ليستعيدها منه في انتخابات صورية ويصبح رئيسا لجمهورية مصر العربية 8يونيو2014, حسب دستور2012وبالتالي فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة , وبمباركة الإعلام الفاسد الذي هلل وبارك الانقلاب كما بارك انتخاب" محمد مرسي" وقبله الإطاحة بمبارك. الذي كان في عهده يقدسه ويبجله, لتدخل البلاد في أزمة أمنية حادة لم تشهدها منذ تسعينيات القرن الماضي، وينتشر الإرهاب والقتل و الفلتان الأمني، وتشيطن جماعة الإخوان المسلمين في الإعلام، وداخل أجهزة الأمن، والمجتمع. ويعتقل الآلاف من قادتها ويعذبوا وتتم تصفية العشرات منهم جسديا ويفر من بقي منهم بجلده نحو دول كتركيا وقطر.
وقد بَلغ عدد المساجين السياسيين في عهد عبد الفتاح السيسي 50 أزيد من ألف سجين,وتتحول مُحافظة سيناء إلى وكر للتشدد والإرهاب التكفيري .وتعلنها داعش ولاية لها هناك,والأمر لا يختلف بالمجمل في بلد ثورة الياسمين إذ بتدخل غربي وإماراتي واضح حاولوا إجهاض هذه "الثورة البيضاء" وهذا ما أشار إليه أول رئيس تونسي منتخب "الدكتور المنصف المرزوقي" "رئيس حزب المؤتمر من اجل الجمهورية", في أول تجربة ديمقراطية عربية معترف بها ليحصل على أصوات 153من اصل217صوتاً .و هو عدد أصوات "أعضاء المجلس الوطني التونسي" ليقود البلاد في المرحلة الانتقالية ويتقاسم السلطة مع "حَركة النهضة" التي تُحسب على تيار الإخوان المسلمين,ثم ليخسر الانتخابات أمام "باجي قايد السبسي" "رئيس حزب نداء تونس" والرجل المخضرم والذي قاد عدة حكومات في "عهد الحبيب بورقيبة" ,وأصبح رئيسا للجمهورية في سنة2014وبنسبة بلغت 55.68بالمئة,من عدد أصوات المقترعين ,ويحاول إحداث إصلاحات سياسية واقتصادية هَامة وجدية. ولكن الأيادي الخارجية.
كالعادة والقوى الإقليمية المعادية جرت البلاد إلى مستنقع الإرهاب، الذي حصد أرواح العشرات من أبناء تونس التي تعتمد على السياحة بالدرجة الأولى. لإنعاش الاقتصاد المتداعي تحت ضربات الإرهاب والاضطرابات السياسية والآفات الاجتماعية، كالبطالة والفَقر، وغياب التنمية المحلية لعدة مناطق همشت في البلاد, كل هذه الأحداث أدتْ لموجة غضب عارم،شهدتهاَ عدة ولايات تونسية ميزهَا عدم قدرة أجهزة الأمن على السيطرة عليها .وكذا إقدام المتظاهرين على حرق الممتلكات العامة وأقسام الشرطة,لتوفد الإمارات يدها القذرة "محمد دحلان"، لدعم خصوم باجي قايد السبسي ماديًا وإعلاميًا وسياسياً وهذا ما حذر منه منصف المرزوقي الذي رأى في ذلك محاولة إماراتية للقضاء على الثورة التونسية الوليدة، فهي برأيه عدو الثورات العربية الأول ومن خلفهَا طبعا دول كالبحرين والسعودية وإسرائيل، التي أصبحت حليفها القوي في المنطقة العربية.
أما في سوريا فقد أدت ثورتها إلى تدخل قوات إيرانية روسية ،إلى جانب النظام .وتد خل دول كقطر وتركيا ،وأمريكا وإسرائيل وفرنسا، والسعودية إلى جانب الميليشيات والعصابات الإرهابية المسلحة وبعد 5سنوات من الاقتتال والصراع المسلح فقد عجز كل طرف عن حسم الصراع لمصلحته.والخاسر الأكبر هو الشَعب والبنية التحتية التي في تقديرات أولية فان كلفة إعادة أعمارها تتجاوز350مليار دولار سيدفعها الشعب السوري من قوته وحياته مستقبلاً، عندما تضع الحرب أوزارها وبالمحصلة النهائية. فإن الثورات العربية لو تركت في مسارهَا الصحيح لتغير الواقع السياسي وربما الاقتصادي والاجتماعي لدى شعوب عدة في المنطقة العربية ولكن قدر شعوب المنطقة أن تكون في أتون حروب إقليمية، ومصالح استعمارية لدول كبرى ترى في استقامة حالة العرب وتوحدهم تهديدًا استراتيجيًا لمصالحهم الحيوية فيها وخطرًا وجوديًا على الضامن لها فيها ألا وهي إسرائيل, وعلينا أن نُقاتل ونُعيد بناء منظور سياسي مُوحد من أجل الإطاحة بالأنظمة الرجعية التي تحميها هذه الدول، لأنها ترعى مصالحها ولا يهمها مصير شعوبها في شيء.
عميرة أيسر-كاتب جزائري

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *