-->

يوم أخفق الموت في التأليف بين القلوب


حزني على ضحايا الطائرة العسكرية الجزائرية التي تحطمت في بوفاريك، بالضاحية الغربية للعاصمة الأسبوع الماضي، لا يضاهيه إلا حزني على ذلك السقوط الأخلاقي الذي شاهدناه في المغرب وتجلت صوره «تحليلا» و«خبرة» و«استراتيجية». كان أبطاله حفنة من «المحللين» و«الكتّاب» و«الخبراء الاستراتيجيين» ليس لهم من التحليل والكتابة شيء.
هناك وجه جميل واحد للموت هو أنه، في العادة، يؤلف بين القلوب ويقلص مساحات الأحقاد. لكن الموت أخفق الأسبوع الماضي في هذه المهمة مع قلوب «خبراء» المغرب. 
257 قتيلا من أبناء الشعب البسطاء والمسحوقين. نعم، كثيرون منهم جنود وضباط صغار، لكنهم من أبناء الشعب البسيط. بينهم نساء وعائلات لكن ليس بينهم «جنرال» واحد من الذين يحبهم سماسرة الكلام المغاربة. 257 نكبة. 257 بيت عزاء. 257 أمّ ثكلى وزوجة أصبحت أرملة وأخت وأب وابن أصبح يتيما. هي كارثة بكل المقاييس، أيًّا كان زمانها ومكانها. ومهما كان الحقد على جغرافيا وتاريخ انتماء الضحايا، كان يفترض فيها أن تليّن قليلا القلوب المريضة في المغرب. أو كان أحرى بهذه القلوب أن تسمو قليلا فوق مرضها، ولو إلى حين.
بعيداً عن مشاعر الأسى التي تركتها، والنفسيات المنحرفة التي عرّتها هناك من وراء الحدود، فضحت تلك الكارثة خليطا من الجهل والتدليس المتعمد لدى «الخبراء» مدّعي المعرفة بالشؤون الجزائرية. 
أجد أنها مأساة فكرية ومعرفية أن يجهل «خبير استراتيجي» مغربي (متخصص في ذمّ الجزائر) أن الطائرات العسكرية التي تقلع من وإلى مطار بوفاريك يستقلها الجنود وصغار الضباط من وإلى ثكناتهم في مختلف أرجاء صحراء البلاد. ويستقلها كذلك مدنيون من عائلات العسكريين. هذا تقليد محمود معمول به منذ عقود، بل أضيف لهم في تسعينيات القرن الماضي أهل الصحراء من سكان المناطق البترولية دون أن يربطهم بالجيش رابط. يكفي أن يكون المرء حاملا تصريحا خاصا يثبت أنه من سكان المناطق البترولية المؤمَّنة ليحق له ركوب طائرة عسكرية متجهة إلى مدينته. 
بوضوح أكثر: أي عسكري جزائري (حتى لو لم يكن جنرالا!!) يحق له الحجز لأفراد عائلته من الدرجة الأولى في طائرة تابعة للجيش من وإلى مطار بوفاريك.
كيف تكون «خبيراً» متخصصا في ذمّ بلد ما ثم تفوتك معلومة كهذه عنه؟ أيضا، كيف ينسى «خبير استراتيجي» مغربي أن من يسميهم جنرالات الجيش الجزائري ويصوّرهم وكأنهم يملكون البلد وخيراته، لا يركبون هذه الطائرات مع مثل تلك الحشود؟ أو يعرف ذلك بالعقل لكنه يتعمد تجاهله ليسهل عليه مواصلة دوره التضليلي.
أما بذل الجهد في تصوير الطائرة المنكوبة وكأنها كانت تقلّ كتائب من الجنود متجهين إلى ساحات الحرب مع المغرب، فذلك إصرار على التضليل والتشويه لا يصدّقه إلا أحمق.
أكثر من ذلك، هناك جهل مزمن لدى هؤلاء «الخبراء» بالتطورات المتعددة التي شهدها المجتمع الجزائري في العقدين الماضيين. تلك التطورات لم ينجُ منها الجيش وكان من نتائجها أن جيلا جديداً من العسكريين وصل إلى رتب عالية ومناصب قيادية.
قبل عقدين، كانت رتبة جنرال نادرة ولا يتولى صاحبها إلا المناصب العليا والمسؤوليات المفتاحية. اليوم ومع العدد المتزايد لحاملي هذه الرتبة من خريجي الجامعات والكليات الحربية الجزائرية والأجنبية، أصبحت أغلب المديريات في وزارة الدفاع يديرها ضباط برتبة جنرال. في العمل الميداني كذلك أصبح جنرالات يشرفون على مهام ومسؤوليات كانت قبل عقدين في يد ضباط برتبة عقيد وأقل. 
وعليه لم تعد كلمة «جنرال» مرادفة للعربي بلخير وخالد نزار وأفراد تلك المجموعة التي تصدرت المشهد السياسي والأمني في تسعينيات القرن الماضي. وأعتبر بناء التحليلات السياسية على مصطلح «الجنرالات» كما لو أن تلك المجموعة لا تزال موجودة ومتماسكة كما في 1992، استهزاء بذكاء البسطاء من الناس الذين يثقون في هؤلاء «الخبراء» (إن وُجد من يثق في كلامهم).
ثم تأتي «المصيبة» الأخرى المتمثلة في استغراب «الخبراء» وجود عناصر من البوليساريو على متن الطائرة المنكوبة. سأتجاوز تعمد «الخبراء» تناسي المأساة الكبرى وتركيزهم على تفصيل صغير لا يستحق الذكر امام المصاب الجلل. 
أين وجه الغرابة في طائرة متجهة من الجزائر العاصمة إلى تندوف مقر جبهة البوليساريو وعلى متنها عناصر من الأخيرة؟ كيف تكون «خبيرا» ثم تجهل ـ أو تتجاهل ـ أن الجامعات الجزائرية والمدن الجامعية بالجزائر تؤوي مئات الطلبة من البوليساريو (ومن دول أفريقية عديدة) يستقلون الطائرات الجزائرية؟ الجزائر تدعم البوليساريو منذ 44 سنة، فلماذا الاستغراب اليوم؟ وكيف يفوتك أن مطارات وطائرات الجزائر هي البوابة الوحيدة لجماعة البوليساريو نحو العالم، بغض النظر عن الموقف السياسي من هؤلاء. 
كنت سأعذر استغراب «الخبراء» وصدمتهم لو وُجد بين الركاب الضحايا عناصر من «الفارك» الكولومبية، أو من الحرس الثوري الإيراني أو من «داعش». أما من البوليساريو فلا يستغربه إلا جاهل.
توفيق رباحي ـ كاتب صحافي جزائري ـ القدس العربي

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *