-->

الفيلق الرابع : الجزء العاشر/ آخر المعارك


مع نهاية خريف سنة 1989 كان الفيلق الرابع يتمركز حول مرتفعات ريش أنجيم الشهيرة ,وخلال عدة أيام كانت تلك السلسلة الفريدة والممتدة بإتجاه الغرب تستهوي أغلب الشباب الذين كانوا يكتشفون معالم أخرى كنا في الغالب نمر بها دون أن نتوقف. 
كان الخريف قد ترك بصماته على تلك المرتفعات التي تقف في المنتصف تماما بين منطقتي تيرس وزمور وتشكل قوسا أسود يشق أديم تلك الفيافي متعرجا نحو الغروب. 
كانت النباتات البرية الخضراء قد بدأت تتسلق سفوح جبلي بشرارك وبودائرة وتضفي على الجبلين الصغيرين رونقا كان مفقودا منذ بداية الصيف الماضي. 
مساء يوم 25 أكتوبر 1989 وصلنا الى هذه المنطقة قادمين من وادي تنافظ وعلى طول أسبوعين كان الشباب يختبرون نموذجا آخر من وطنهم. 
ومع مرور الأيام خط الشباب ملعبا لكرة القدم غرب موقع تمركز الكتيبة الثالثة وفي أغلب تلك الأمسيات الخريفية كان ذلك الملعب الترابي وجهة مفضلة لبعض شباب الفيلق,وغير بعيد من ذلك الملعب جلس ذات مساء الشهيد لعروصي محمد أحمد التابع للكتيبة الثالثة على صخرة سوداء في سفح جبل بودائرة قرب ناقلة سيطرة كتيبته وكتب قصيدته الشهيرة: 
حد أعليه التاريخ أشهد فيام التاريخ إجولو 

زين أعليه ألا يتفڴد شهداه الكانو حولو.. 
زين أعليك أتوجه بغناك 
والقصة والعهد أورا ذاك 
وتألف عن ذاك وعن ذاك تاريخ إعود أمدلولو 
وذاهرلي عني ماني شاك فمنادم جاك اتڴولولو 
وأتعبر لو عن شهداك ليام إطولو وإزولو 
غير ألا لعل يخطاك هون أشوي أبغيت أنڴولو 
كنت أنا و أحمد فبلد هاك شهيد ولا نڴطع مولو 
حد أعليه التاريخ أشهد.. 
ورغم أنه نظم هذه القصيدة تخليدا لذكرى صديقه الشهيد الناجم عبدي الذي سقط شهيدا في معركة أم أدڴن إلا أنه كان في الواقع كمن يوصي رفاقه بالوفاء لعهد الشهداء,وبعد تسعة أيام فقط سقط شهيدا في ميدان الشرف. 
كان السياسيون الصحراويون في تلك الأيام قد بدؤوا يتحدثون عن الاستفتاء وعبر الاذاعة الوطنية كنا نتابع كل تلك التطورات, وطبعا كانت أنباء المعارك هي التي تهمنا ومع أن الشباب حينها لم يستوعبوا جيدا فكرة السلام قبل تحقيق الاستقلال إلا أننا لم نكن نبالي كثيرا بكل تلك التصريحات التي تتحدث عن مخطط السلام. 
مساء يوم الثامن نوفمبر 1989 وقبل صلاة العصر بوقت قصير كانت كتائب الفيلق الرابع في فترة صيانة عامة, كان الشباب منهمكون في صيانة الاسلحة والآليات وفجأة أغار سرب من الطائرات المغربية على الفيلق وتعرضت الكتيبة الثالثة خلال هذا الهجوم لقصف مركز. 
كان عناصر الكتيبة الثالثة منشغلون بصيانة آلياتهم عندما إهتزت جنبات الوادي بفعل تساقط القذائف وعلى الفور فتحت المضادات الأرضية نيرانها مستهدفة تلك الطائرات المغيرة وتحولت سماء بودائرة الى ما يشبه الفرن بسبب كثافة النيران التي كانت تطلقها وحدات الدفاع الجوي. 
وبسبب ذلك الجحيم الذي يغطي السماء وجد الطيارون المغاربة أنفسهم مرغمون على التحليق على ارتفاعات شاهقة لتفادي حقل النيران, وطبعا تسبب ذلك الارتفاع الهائل في عدم إصابة أية أهداف وسقطت أغلب قذائفهم داخل محيط ملعب كرة القدم المهجور. 
وبعد صلاة المغرب بوقت وجيز أدركنا جميعا سبب هذا القصف العشوائي حيث أعلنت الاذاعة الوطنية خبر تنفيذ عملية عسكرية كبيرة في منطقة حوزة فجر ذلك اليوم وأكد البلاغ أن رفاقنا في الشمال تمكنوا من إحتلال أجزاء واسعة من الجدار المغربي وأسقطوا طائرة مقاتلة من نوع ميراج f1, وفي نفس هذا اليوم أيضا أعلنت جمهورية هندوراس إعترافها الرسمي بالجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية. 
كان الجيش المغربي فيما يبدو يبحث عن أسباب يسترجع بها بعضا من كرامته المهدورة وطبعا كان الفيلق الرابع العنيد لازال يقض مضاجعهم . 
بعد إنتهاء الغارة الجوية صدرت الأوامر مباشرة بالتحرك نحو وادي تنافظ القريب نسبيا وبعد ساعة من المسير المتواصل كانت الناقلات تجتاز بنا وادي الحاذ, ومع حلول صباح التاسع نوفمبر كنا نتناول الشاي في ظلال وادي تنافظ الذي كان في تلك الأيام في أبهى حلله كعادته دائما خلال الخريف. 
ومع زوال نفس اليوم أخبرنا قائد الجماعة أن الدراسة قد توجهت الى الجدار المغربي وأنه علينا أن نستعد للمعركة. 
كانت الأحداث في تلك الأيام تجري بشكل متسارع ومخطط السلام الأممي الافريقي قد وصل مراحل متقدمة وطبعا كان الصراع السياسي قد بلغ أشده, وفي نفس تلك الأيام أيضا كان الحسن الثاني يدفع بإتجاه وقف إطلاق النار بعد أن بلغت خسائر جيشه أرقاما غير مسبوقة لكنه كان في الواقع يسعى الى التملص من أي إلتزام أممي, وعندها فقط قررت القيادة العسكرية الصحراوية أن الوقت قد حان للضغط بقوة السلاح لفرض قبول تنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية. 
صباح يوم الأربعاء 15 نوفمبر 1989 كانت مخيمات اللاجئين الصحراويين تستحضر الذكرى الرابعة عشر لإتفاقية مدريد المشؤومة والتي تم بموجبها تقسيم الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا, وخلال نفس اليوم أعلن الشهيد محمد عبد العزيز أمام وسائل الاعلام الدولية عن استئناف العمل القتالي مادام ملك المغرب يرفض المفاوضات بعد أن عرقل اللقاءات مع جبهة البوليسلريو خمس مرات متتالية. 
كانت المفاوضات قد بدأت منذ مدة ومخطط السلام يمضي على إستحياء ويبدو أن صراع الارادات العسكرية كان قد بلغ قمته في تلك الأيام ,ورغم أن القادة العسكريين كانوا يدركون أن الحرب تسير نحو نهايتها, كان شباب الفيلق الرابع يعتبر أن الأمر مجرد معركة أخرى. 
ومع حلول زوال نفس اليوم وبعد مرور أربعين يوم على معركة الڴلتة تحرك الفيلق الرابع "للمرة الأخيرة حتى الآن " نحو الجدار الدفاعي المغربي. 
كان المسير نحو المعركة سلس بشكل واضح وخلال ذلك المساء اجتازت بنا الناقلات منطقة بذياب وبوشبشوب, ومن بعيد تراءت بعض سيارات سوفاماڴ الموريتانية التي كان السراب يجعلها تبدو وكأنها تتراقص , كان الموريتانيون فيما يبدو يحرسون حدود بلادهم في تلك المنطقة المتداخلة وطبعا كانوا يدركون جيدا أن أمرا جللا سيحدث فجر اليوم الموالي. 
وقبل صلاة العصر بقليل تجاوز الفيلق الرابع منطقة أمات ألحم و أوديات لخيام ومن بعيد ظهرت معالم أمات أشڴاڴ , وقبل غروب شمس ذلك اليوم كانت أرتال ناقلات BMP تقف بإنتظام غرب أمات أشڴاڴ ومئات الرجال يستعدون لخوض المعركة. 
كانت القيادة العسكرية هذه المرة قد إختارت موقعا صعبا جدا يقع في ملتقى قطاعي آمڴالا وڴلتة زمور,وطبعا كانت تلك المنطقة التي تسمى أظلوع من أكثر المناطق تحصينا, واضافة الى التحصينات الدفاعية الكبيرة كانت الجبال تقف عائقا أمام أي اختراق محتمل,ورغم وجود كل هذه الموانع الطبيعية والمصطنعة كان القرار قد صدر وهذا يعني بالنسبة للصحراويين أن الهجوم سينفذ مهما حدث,ورغم أننا لم ندرك حينها سبب إختيار هذه النقطة الحصينة إلا أننا علمنا بعد ذلك أن القيادة العسكرية كانت قد تعمدت مهاجمة إحدى أقوى تحصينات العدو لتجهز على آخر ما تبقى من معنويات الجنود المغاربة الذين كانوا قد أصبحوا يدركون جيدا أن الحواجز لا تستطيع أن تمنع الصحراويين من الوصول اليهم في أي وقت. 
وبعد صلاة المغرب بوقت وجيز اجتمع قادة الوحدات المشاركة في المعركة وبعد تدارس كل المعلومات التي قدمها استطلاع الناحية الثالثة تم اعتماد الخطة التالية: 
- سيتم فتح الثغرة في الفاصل الممتد بين القاعدة ونقطة الاسناد. 
- تتولى وحدات الفيلق الرابع المدرعة الدخول من القلب (المحرد) ومهاجمة القواعد الرئيسية . 
- تتولى الناحية الاولى الدخول من الميمنة والناحية الثالثة الدخول من الميسرة. 
وأثناء هذا الاجتماع وصلت معلومات تؤكد أن العدو قد اكتشف الهجوم,بعد أن حصل على أنباء تفيد بتحرك قوات صحراوية ضخمة باتجاه منطقة أظلوع. 
كانت هذه المستجدات تعني أن عامل المفاجأة قد تلاشى تماما وأن الفاصل المستهدف سيكون محروس بشكل جيد ,وفي الظروف العادية كان سيتم تأجيل هذه المعركة وإنتظار فرصة مناسبة أخرى, لكن القيادة العسكرية وعلى غير العادة قررت تنفيذ هذه المعركة مهما كانت النتائج. 
وبعد مراجعة كل الاحتمالات الممكنة تقرر في آخر لحظة أن يتم العبور من نقطة تكاد تكون مستحيلة تقع عند تلاقي الجدار المغربي مع الجبل, ونظرا لطبيعة تلك الأرض الوعرة التي تطوقها الجبال من كل جانب كان على الوحدات المهاجمة أن تلتف على اليمين وأن تقاتل جميعا في مساحة ضيقة جدا. 
وبعد تشاور عميق ودراسة كل المعطيات المتوفرة حسم القادة أمرهم وقرروا تنفيذ الخطة التالية: 
- إعتماد الساعة الخامسة فجرا كموعد للاقتحام. 
- تم تحديد نقطة الاقتحام من نقطة قرب أمات أشڴاڴ. 
- سيتم الدخول هذه المرة من موقع صعب جدا,ولن تكون هناك ثغرة,وهذا يعني أن المهاجمين سيدخلون عنوة ومن الموقع الذي انتهي فيه الجدار المغربي في الجبل. 
- تتولى الكتيبتان الأولى والثانية من الفيلق الرابع مدعومتان بوحدة من الناحية الثالثة والسرية الخامسة الدخول نحو اليمين ومهاجمة القاعدة الرئيسية. 
- تتولى الكتيبة الثالثة من الفيلق الرابع مدعمة بوحدة من الناحية الأولى مهاجمة نقطة الإسناد. 
- يتولى الفيلق السابع عشر ووحدات من الناحيتين الأولى والثالثة مهمة تشكيل خط دفاعي خلف الجدار المغربي ومواجهة النجدات المحتملة اضافة الى تأمين أطراف المعركة. 
- يتولى رجال الاستطلاع مهمة فتح ثغرة اضافية بين القاعدة الرئيسية ونقطة الاسناد بعد دخول المهاجمين مباشرة. 
- تتولى فصيلة من الكتيبة الثالثة من الفيلق الرابع مدعومة بوحدة من الناحية الأولى مهمة تأمين ثغرة العبور. 
- تتمركز بطاريات المدفعية التابعة للفوج الثاني عشر شمال أغشان لخظر وتتولى مهمة تدمير القواعد المحاذية لجبهة المعركة والرد على المدفعية المعادية. 
- تتولى وحدات الدفاع الجوي مهمة تأمين أجواء المعركة. 
ومع نهاية هذا الاجتماع صدرت الأوامر بتقليص عدد أفراد الوحدات المهاجمة بسبب طبيعة أرض المعركة وضيق المساحة المستهدفة , وتم التأكيد على ضرورة اجتياح القواعد المغربية وتدميرها بشكل كامل, وطبعا كان يبدو أن القيادة العسكرية تريد ترك بصمتها قبل توقيع وقف اطلاق النار. 
كان الليل قد بدأ يرخي سدوله على منطقة أمات أشڴاڴ ووسط الهدوء الحذر كان الرجال المتأهبون ينتظرون بصمت حلول ساعة الصفر, وعلى الجانب الآخر سيبيت الجنود المغاربة ليلتهم وهم يدركون أن زوار الفجر ينتظرون. 
ووسط الظلام كان الشباب المتأهبون ينتظرون منذ ساعات ومع اقتراب ساعة الهجوم كان رجال الهندسة العسكرية يحاولون تمهيد ثغرة صغيرة عند النقطة التي التقى فيهل الجدار الدفاعي مع الجبل, ورغم أنهم كانوا يدركون أن تلك الثغرة المائلة ستكون صعبة جدا على السيارات الخفيفة إلا أنهم كانوا يعولون كثيرا على جنازر ناقلات PMB 1 عساها تسوي ما تعذر من صخور تلك المنطقة القاسية. 
في الهزيع الأخير من الليل كان الرجال يعملون باصرار غريب على ازالة الصخور التي تعيق مرور الآليات وفجأة دوى صوت محركات PMB الهادر ممزقا سكون الفجر,وعلى الفور بدا وكأن منطقة أمات أشڴاڴ ترمي بكل غضبها نحو الغرب,وطبعا كانت ناقلات الفيلق الرابع ضمن أولى موجات المهاجمين فقد كان الرجال واثقون من قوة تلك العربات السريعة وقدرتها على تجاوز الحواجز. 
ومع وصول أولى الناقلات لموقع ثغرة العبور تبين أن تلك الثغرة مائلة بشكل كبير بسبب وجودها على جانب الجبل ورغم الصخور الصلبة التي تشتهر بها تلك الأرض والتي كانت تتناثر في كل مكان تقدمت تلك الناقلة نحو الجبل,توقفت قليلا ثم زأرت محركاتها بقوة و ارتفعت مقدمتها نحو السماء وهي تجتاز الجدار الدفاعي وبعد أن عبرت إصطدمت جنازرها بالارض والشرر يتطاير منها وعلى الفور تبعتها كل ناقلات الفيلق واندفعت تلك العربات المرعبة مخترقة كل الحواجز التي بدت بدون جدوى أمام صلابة عربات PMB ورباطة جأش أولائك السائقين المتمرسين . 
في حدود الساعة الخامسة وثلاثين دقيقة فجرا عبرت أولى موجات المهاجمين توالى عبور سيارات لاندروفير وتويوتا بعد أن تم تمهيد تلك الثغرة التي كان الدخول منها يبدو مستحيلا. 
وعلى الفور التفت الكتيبتان الاولى والثانية من الفيلق الرابع مدعمتان بوحدة من الناحية الثالثة نحو اليمين و اقتحموا جميعا في آن واحد تلك القاعدة الكبيرة التي كانت تطلق النيران في كل الاتجاهات. 
كان مشهد الناقلات فجرا وهي تتقدم بشكل سريع ,تحيط بها سيارات تويوتا FG45 التي تحمل رشاشات 23 ملم مثيرا للاعجاب ورغم أن تلك القاعدة الضخمة حاولت جاهدة مواجهة الهجوم السريع ,إلا أن ضراوة الاقتحام وكثافة النيران أرغمت أغلب جنودها على الهروب تحت جنح الظلام نحو المرتفعات الغربية ولم يعد أكثرهم شجاعة يفكرون في أبعد من النجاة بانفسهم بعد أن جرفهم الاعصار, وبعد لحظات قليلة كانت الناقلات تشكل طوقا حول تلك القاعدة التي بدأت مقاومتها تتراخى . 
كان الشهيد لمرابط ولد العرابي قائد الفصيلة الأولى من كتيبتنا يقف داخل محيط القاعدة عندما أصيب اصابة مباشرة وعلى الفور لحق بركب الشهداء لكن رفاقه تمكنوا بشكل سريع من تحديد موقع الجنود الذين استهدفوه , وبشكل آلي تعاورتهم صواريخ RBG7 من كل جانب وتحول ذلك الخندق اللعين بمن فيه إلى أنقاض تأكلها النيران ويتصاعد منها الدخان. 
وفي نفس هذ الوقت تقريبا كانت الكتيبة الثانية تجتاح الجزء الشمالي من القاعدة ,ووسط تدافع الرجال نحو العدو أصيب محمود نافع وسقط شهيدا بعد أن تمكن رفاقه من السيطرة تماما على ذلك الجزء الملتهب, وعلى مشارف تلك القاعدة أصيبت إحدى ناقلات الكتيبة الثانية دون أن يتعرض طاقمها لأضرار. 
في حدود الساعة السابعة صباحا وبعد أن لاح ضوء النهار وأصبح الشباب يرون شارات بنادقهم تمكنت الكتيبتان الأولى والثانية من السيطرة بشكل كامل على القاعدة الرئيسية وعلى الفور بدأت عملية تطهير تلك القاعدة الكبيرة التي كان ضوء الصباح قد أبان عن حجم الدمار الهائل الذي لحق بها. 
كنا نعتقد جميعا أن تلك القاعدة قد إنتهى أمرها تماما وعلى الفور بدأ الرجال يجمعون السلاح والغنائم وفجأة نهض جندي مغربي كان فيما يبدو مختبئا خلف حاجز اسمنتي وبشكل سريع عاد ذلك الجندي الى مكان اختبائه ثانية. 
كانت مجموعة من الناحية الثالثة تحاصره من الشمال وهم أول من تمكن من تحديد موقعه لكن جماعة من فصيلتنا كانت قريبة جدا من موقع الجندي المحاصر, وطبعا كنا نستحضر جميعا معنى أسر جندي في المعركة وقيمة ذلك على سلم العمل القتالي خلال المسابقة العسكرية التي لم تكن بعيدة, وبشكل آلي حدث ما يشبه التسابق نحو ذلك الجندي السيئ الحظ بعد أن سدت في وجهه كل المنافذ. 
تدافع شباب فصيلتنا نحو الجندي المحاصر وبشكل سريع أطلق أحد الرماة صاروخ RBG7 نحو موقع تخندق الجندي المغربي, ويبدو أن قوة الصدمة وحرارة اللهب الناتجة عن الصاروخ جعلت ذلك الجندي الخائف يقف رافعا يديه نحو السماء وبعد لحظات قليلة كان الشباب يحيطون به وسط احتجاج المجموعة التي كانت تحاول أسره منذ مدة , وبعد دقائق قليلة كان ذلك الجندي الأسير ممددا على ظهر ناقلتنا تشده الحبال الى الفلاذ الساخن. 
وفي نفس هذا الوقت تقريبا كانت الكتيبة الثالثة تحاصر نقطة الإسناد التي حاولت المقاومة لكن وجود ناقلات BMP وكثافة النيران التي كانت تضيء فجر ذلك اليوم جعل تلك القاعدة تسقط بشكل سريع ولم تطلق رشاشاتها سوى وابلين بوتيرة سريعة ثم سكتت، بعد أن جرفتها زخات الرصاص. 
بعد أن تمت السيطرة على نقطة الاسناد بدأت مجموعة من شباب الكتيبة الثالثة عملية جمع الغنائم ويبدو أن بعض الجنود المغاربة كانوا يختبؤون داخل مربع إسمنتي وتمكنوا من إصابة الشهيد لعروصي محمد أحمد رامي RBG7 وعلى الفور فتح رفاقه باب الجحيم في وجه ذلك المربع بمن فيه وعندما إنتهوا منه كان قد سوي بالأرض تماما. 
وقبل نهاية المعركة بوقت قصير أصيب أيضا أزروك الزين أرام من الناحية الاولى ولحق بركب الشهداء. 
كانت المعركة تسير نحو نهايتها وأعمدة الدخان تتعالى نحو السماء ودوي القذائف وهدير الصواريخ يتردد في جنبات تلك المنطقة الضيقة التي تحاصرها الجبال ويغطيها الغبار. 
وغير بعيد عن ميدان المعركة وعلى طول السفح الغربي كان الفيلق السابع عشر ووحدات من الناحيتين الأولى والثالثة يشكلون حزاما يمنع وصول العدو وتمكنوا من صد كل النجدات التي حاولت التدخل في المعركة وظلوا متمسكين بمواقعهم حتى النهاية , وقبل نهاية المعركة بوقت قصير أصيب أحمد دهمانة التابع للفيلق السابع عشر بجراح طفيفة. 
كانت وحدات الهندسة العسكرية ومنذ بداية الهجوم تعمل على فتح ثغرة إضافية لتتمكن الوحدات المهاجمة من الانسحاب بشكل سليم, وأثناء عملية الانسحاب انفجر لغم أرضي وتسبب في قطع جنزير احدى الناقلات التي كادت أن تسد ثغرة الانسحاب ومع ذلك تمكنت كل الوحدات من الانسحاب بشكل منظم. 
وبعد نصف ساعة من نهاية المعركة تدخل الطيران المعادي وطبعا كانت المدفعية المغربية لاتزال ترمي بكل ما لديها في إتجاه الشرق ومع مرور الوقت تحول ذلك السهل المنبسط الى جحيم , ورغم أن القذائف كانت تتساقط في كل مكان واصلت ناقلات PMB مسيرها غير آبهة بكل تلك النيران. 
وفي الوقت الذي كانت فيه الكتيبة الثالثة تقترب من منطقة أمات أشڴاڴ كان الشهيد سلمتو محمد فاظل المعروف بولد مليكة نائب قائد الكتيبة الثالثة من الفيلق الرابع يجلس على برج ناقلته وحوله مجموعة من رفاقه وفجأة سقطت قذيفة قرب الناقلة و اختفت تماما في الدخان وبعد أن تلاشى الغبار تبين أن سلمتو ولد مليكة و محمد نناة المعروف بهدي رامي الناقلة قد إلتحقوا بركب الشهداء. 
وفي نفس هذا الوقت تقريبا سقطت قذائف أخرى قرب إحدى ناقلات كتيبتنا وعلى الفور جرح كدي ولد فريك ولبات العربي التابع للسرية الخامسة. 
ومع حلول زوال يوم المعركة تم دفن شهداء الفيلق الرابع قرب أمات أشڴاڴ , وبعد صلاة المغرب بقليل توجه الفيلق نحو واد تنافظ. 
كان القمر قد طلع للتو فألقى بضوء خافت على واد تنافظ الذي كان هادئا بشكل غير عادي رغم وجود كل أولائك الشباب الذين يحتلون دفء أشجار الطلح ويتبادلون النكات رغم أن ضجيج المعركة لازال يصل آذانهم ,ووسط ذلك المساء الهادي وتحت تلك السماء الصافية التي تسبح فيها آلاف النجوم وبشكل صاخب ارتفع فجأة صوت مميز كنا جميعا ننتظره بفارغ الصبر. 
كان قائد الجماعة المخضرم وكعادته دائما قد فتح المذياع وبعد لحظات قليلة قرأ المذيع البلاغ العسكري التالي: 
بعد الملاحم البطولية التي نفذها جيش التحرير الشعبي الصحراوي في ڴلتة زمور وحوزة وآمڴالا, شنت فجر هذا اليوم 16/11/1989 وحدات من أبطال جيشنا الميامين هجوما كاسحا إستهدف ملتقى قطاعي ڴلتة زمور وآمڴالا و تمكن مقاتلونا الأشاوس من دك معاقل القوات المغربية الغازية على طول أحزمتها الدفاعية وتحصيناتها بهذا القطاع. 
وقد استمرت هذه المعركة البطولية من الساعة 05:00 فجرا حتى 08:45 دقيقة صباحا,وتمكن مقاتلونا خلالها من احتلال جزء كبير من الحزام الرملي ومطاردة فلول القوات الغازية في أعماق دفاعاتها. 
وكانت نتائج هذه المعركة كالتالي: 
- قتل 75 جنديا غازيا. 
- جرح عدد كبير من جنود العدو. 
- احتلال قاعدة دعم وثلاثة قواعد انذار ونقطة مراقبة. 
- وتم تدمير المعدات التالية: 
-02 بطارية 120 ملم. 
-05 هاونات 81 ملم. 
-01 رادار. 
- حرق عدد كبير من الشاحنات والسيارات الخفيفة. 
- حرق 03 مستودعات للذخيرة. 
- تدمير مستودعين للمؤن. 
- وتمكن مقاتلونا من غنم وسائل ومعدات العدو التالية: 
-01 سيارة TOYOTA . 
-01 رشاش 14.5 ملم. 
-02 رشاش 12.7 ملم. 
-02 رشاش ماك. 
-01 مدفع 106 ملم عديم الارتداد. 
- عدد من مواسير رشاشات 12.7 و14.5 ملم. 
-01 هاون 60 ملم. 
- ادارة كتيبة. 
-01 جهاز رؤية ليلية. 
-01 جهاز ارسال واستقبال. 
-01 قاذف صواريخ RBG7 وتوابعه. 
-12 صاروخ MILAN . 
-11 صاروخ DRAGON. 
- عدد هام من قواعد رشاش 12.7 ملم. 
- عدد كبير من الاسلحة الخفيفة. 
- كمية كبيرة من الذخائر. 
- كمية كبيرة من الادوية. 
- وتمكن مقاتلون الأشاوس من أسر 03 جنود غزاة. 
وبعد نهاية البلاغ العسكري إنفض الشباب من حول المذياع فيما كان شبح ابتسامة طفيفة يتراقص على وجه قائد الجماعة الذي كان يراقب النجوم. 
أمضينا بعد المعركة شهورا عدة في ظلال وادي تنافظ ومع منتصف سنة 1990 بدأت رحلة العودة نحو الجنوب .
كان الشباب يعتلون ظهور الناقلات وهي تطوي منطقة أعظم أحمد المولود التي تبدو في عز الظهيرة وكأن لا نهاية لها, وكلما تجاوزت أميالا منها يرفع السراب أميالا أخرى ,ومع ذلك تواصل المسير رغم خطورة اجتياز تلك المنطقة الجرداء نهارا. 
كانت نباتات آسكاف تبدو من بعيد وسط السراب وكأنها جبال تحيط بها المياه وكلما إقتربت منها يتلاشى منظر المياه الخادع وتعود تلك النباتات الصغيرة لحجمها الطبيعي ومظهرها الأشعث. 
ومع حلول عصر نفس اليوم ظهرت من بعيد قمة جبل ميجك الهائل ,كان ذلك الجبل الفريد يقف بعنفوان غريب و يتوسط مساحات كبيرة جرداء ,ومع مرور الوقت كان حجم ذلك الجبل الشامخ يكبر في أعيننا كلما نقصت المسافة التي تفصلنا عنه, وطبعا كان إسم ذلك الجبل وحده يرغمك على إستحضار التاريخ ويجعلك منظره المهيب تكاد تسمع صهيل الخيل وأزيز الرصاص. 
وفي رحاب جبل ميجك الشهير أمضينا فترة طويلة ننتظر استئناف المعارك من جديد ,وطبعا لم نكن ندري أن الحرب توشك على نهايتها , رغم بعض الأخبار التي كانت تصلنا تباعا عبر الاذاعة الوطنية حول تقدم مسار المفاوضات بين جبهة البوليساريو والمغرب. 
ومع بدية شهر يونيو1990 تم عقد أول اجتماع للشيوخ الصحراويين بجنيف, وبتاريخ 18 يونيو من نفس العام تقدم الأمين العام للأمم المتحدة لمجلس الأمن الدولي بتقريره الكامل وقد ضمن فيه مقترحاته الخاصة بحل مشكلة الصحراء الغربية، وفعلا تمت المصادقة على هذا التقرير من قبل المجلس في نهاية الشهر. 
ومع حلول يوم 29 إبريل سنة1991 صادق مجلس الأمن الدولي على القرار رقم 690 الذي ينص على تشكيل بعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية مينورسو (MINURSO). 
ورغم كل تلك التطورات وفي العشرين غشت سنة 1991 وفي عز الصيف خرجت من الجدار الدفاعي قوات مغربية جرارة وإتجهت مباشرة نحو جبل ميجك, ويبدو أن القيادة العسكرية المغربية كانت تحاول الاصطدام بالفيلق الرابع الذي كان يحيط بذلك الجبل, ورغم أننا كنا جاهزين للمواجهة إلا أن الأوامر صدرت بشكل صارم بعدم التصدي للعدو وعلى الفور تحرك الفيلق نحو منطقة أم أظفيرات ,وخلال عدة أيام كانت النواحي الأولى والثالثة والسابعة تحيط بقوات العدو وتراقبها بشكل لصيق لكن أمر الاقتحام لم يصدر أبدا,وفي النهاية تراجع الاستعراض العسكري المغربي نحو الجدار الدفاعي. 
ومع حلول مساء الخامس سبتمبر 1991 وبشكل مفاجئ صدرت الأوامر بتجهيز الناقلات وبعد صلاة العشاء بوقت وجيز بدأ المسير. 
وطبعا كنا نتوقع أننا سنتوجه نحو الجدار المغربي كالعادة وأننا سنخوض معركة أخرى لكن إتجاه سير الناقلات منذ البداية أثار شكوك الجميع, فعلى غير العادة تواصل المسير هذه المرة طيلة الليل نحو الجنوب الشرقي ومع ساعات الصباح الأولى من يوم السادس سبتمبر 1991 توقفت بنا الناقلات قرب بئر قديمة كانت تبدو وكأنها لم تستعمل منذ زمن طويل ويبدو أن الرياح وعاتيات الزمن كادت أن تمحي ملامحها تماما. 
توزعت الناقلات حول البئر المهجورة و أخبرنا قائد الفصيلة أن هذه البئر تحمل إسم حاسي المبروك ,وتقع تماما شرق حاسي آغوينيت. 
ومع حلول زوال نفس اليوم كانت اذاعة لندن تبث برامجها وبعد أن أعلنت ساعة بيڴ بان تمام الوحادة زوالا بتوقيت أغرينيتش قرأ المذيع نبأ توقيع جبهة البوليساريو والمغرب لإتفاق شامل لوقف إطلاق النار. 
للوهلة الأولى لم يتمكن بعض الشباب من إدراك معنى هذا الاتفاق وربما تطلب فهم الحقيقة أياما لندرك جميعا أن الحرب قد إنتهت, رغم أننا كنا ندرك أيضا أن توقف الحرب لا يعني السلام. 
ورغم أن الأيام قد فرقتنا بعد ذلك وذهب بعض عناصر ذلك الفيلق الأسطوري مذاهب شتى لازال إسم الفيلق الرابع حتى اليوم يحمل رنينا لا يمكن تجاهله حتى بعد مرور ثمانية وعشرين عاما على وقف إطلاق النار, وطبعا لا تزال ناقلات الفيلق الرابع جاثمة حتى الآن تحيط بمنطقة لميلح شمال آغوينيت تحت إسم الفيلق الخامس عشر, نفس الناقلات التي جابت الصحراء طولا وعرضا و إخترقت الجدار المغربي ثمانية عشر مرة وقاتلت في أزمول النيران وأم لڴطة وأذويهب وتشلة والعائديات وأم أدريڴة وإجتاحت الراجمة المغربية الثالثة في أم أدڴن تقف اليوم بفخر وعنفوان يشوبهما الحزن, ومن يدري قد نرى تلك العربات السريعة الهادرة تنطلق فجرا مرة أخرى نحو الجدار المغربي. 
ورغم تعاقب السنين عندما ألتقي رفاقي اليوم تبدو آثار الزمن والتجاعيد والشيب قد غزت وجوه معظمهم ولم يعودوا أولائك الشباب الجامحين الذين عاشرتهم ذات يوم ,لقد أصبحوا الآن رجالا مخضرمين لكن نظرات الاصرار وروح المحاربين الوثابة لا تزال كما عهدتها واضحة على تلك الوجوه السمر التي لوحتها الشمس وسيبقون في نظري دائما رجالا جديرون بالإحترام. 
حمدي ميارة.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *