"أجديرية" المحتلة : مرقد أول شهداء الثورة ومدفن أول جحافل الغزاة ..
من ثكنة الى مدينة ..
تقع بلدة "أجديرية" في الجهة الشمالية الشرقية من أرض الوطن عند تقاطع خطي الطول 10،45 والعرض 27،23 في وادي "كارة" قريبا من سلسلة "كرب الهاوه", على بعد 450 كم من مدينة العيون، و468 كم من شاطئ المحيط الاطلسي، تحدها من الجنوبي الشرقي بلدة "الفرسية" على بعد 36 كم, ومن الجنوب الغربي بلدة "حوزة" على مسافة 100 كم، ومن الشمال الحدود المغربية على بعد 67 كم، كما تبعد عن بلدة "المحبس" بمسافة 145 كم وعن "زوگ" في أقصى جنوب الوطن بمسافة 734 كم، وعن مدينة "تيندوف" الجزائرية بحوالي 270 كم.
ساعد موقع البلدة وسط هضاب تتخللها اودية عديدة على بقاء المناخ معتدلا رغم ارتفاع درجات الحرارة صيفا ( قد تصل 47 درجة )، والامطار بها موسمية قليلة ( خلال العشرية 1975/1965 كان أعلى معدل للتساقطات المطرية في اكتوبر 1968 وبلغ 60 ملم ), وتعد منطقة "أجديرية" من المناطق الغنية بالمياه الجوفية.
ويمتاز الغطاء النباتي للمنطقة بالتنوع، فعلى امتداد الاودية والمرتفعات تنتشر أصناف كثيرة من الاشجار مثل "الطلح"٫ "اجداري" ٫ "آرگان"٫ "النخيل" ٫"البطم"٫ "الفرنان"٫ "أتيل" "الطرفة"٫ والنباتات الأخرى مثل "الگندول"٫ "آسكاف" "الغردگ"٫ "الحلاب"٫ "السكوم"٫ "أم لبينة" "الگرزيم"٫ "الزيات"٫ "الدقموس"٫ "السمار"، إضافة الى الاعشاب الموسمية الكثيرة.
وكانت الزراعات التقليدية منتشرة على ضفاف وادي "آفرة" كما ظلت قطعان الإبل والماعز والضأن تجول المنطقة التي عرفت قديما بتواجد العديد من الحيوانات البرية ك "الرويان" و"لهراميش" و"الضباع" .
وتعود تسمية البلدة الى شجر "أجداري" الذي يكثر في انحائها، خاصة في موقع إنشاء البلدة، أين تقع مجموعة الآبار العذبة، التي شكلت منهلا قديما عند ملتقى وادي آماقيد ( أموقاد لبيظ وأموقاد لخظر )، وكانت ممرا قديما للقوافل و"الغزيان"، وتشكل المقابر الجماعية و الرسوم والنقوش الحجرية التي تعج بها الهضاب المحيطة بالبلدة شاهدا على ذلك.
تم وضع اللبنات الأولى للبلدة حين اتخذتها القوات المشتركة الاسبانية-الفرنسية سنة 1958 احد مراكز انطلاق الحملة الشرسة ضد المقاومة الوطنية التي عرفت بحملة "أوكوفيون"، حيث اقيمت تحصينات كبيرة وحفرت الخنادق وأنشئ مهبط عملياتي لطائرات الحملة مع مهابط اخرى في كل من "المطلاني" قرب "ارغيوة" و"المغدر لخظر" باودية "آمغانه" شمال البلدة ب 40 كم. المهبط المذكور حولته وحدات اللفيف الاجنبي الاسبانية ( Tercio ) التي استقرت بالبلدة سنة 1960 الى مهبط دائم ظل يستقبل رحلتين اسبوعيتين لطائرات ( Junkers ) المخصصة لنقل المؤن والجنود والموظفين والمرضى حتى أواخر 1975.
في سنة 1962 وبعد ان اصبحت البلدة مأهولة، تعززت تلك الوحدات بفرق من القوات المتنقلة La Agrupación Tropas Nomadas (ATN), لحقتها سنة 1965فرقة من الشرطة الاقليمية Policía Territorial PT
وانشئت ادارة مختلطة مدينة/عسكرية تحت اسم مكتب الاعلام والامن Oficina de Información y Siguridad
اشرف عليها ضابط برتبة عقيد بمساعدة ملازم أول كان يقوم بتسيير الشؤون المدنية.
توسعت البلدة تدريجيا، فبالاضافة الى الثكنات العسكرية شيدت الإدارة الاستعمارية حيا سكنيا من 100 منزل من البناء الجاهز ( بأسقف Uralita ), لايواء الموظفين الاسبان والصحراويين وعائلاتهم وادخلت الإنارة واقامت خزانا للمياه، وبعد ربط "حوزة" و"السمارة" بطريق اسفلتي ضيق سنة 1967 ازدادت وتيرة حركة العمران الخاصة على تواضع بنياتها، وإضافة الى الادارات الحكومية ومدرسة ومستوصف بطاقة متوسطة، بنيت المحال التجارية وظهرت بعض المهن الحرفية، ونمت على تخوم البلدة الصغيرة اكواخ قصديرية وتجمعات من الخيم، بفعل موجات النزوح التي شهدتها تلك الفترة الى مراكز الاستقرار والعمل.
وقد تناوب على منصب عمدة البلدة Alcalde ، من سنة 1968 الى 1975 ( تاريخ الاجتياح المغربي )،ثلاثة آباء أجلاء هم :
- لغزال ولد مولاي احمد ولد سيد البشير.
-سيدي ولد برة ولد عبد القادر.
-لحبيب ولد لبيهي ولد الخليل.
وقد توفوا جميعا بولاية أوسرد بمخيمات اللاجئين عليهم رحمة الله.
كما تولى منصب الحاكم الإداري، منذ 1965 حتى 1975، ستة ضباط إسبان كان اولهم الكابتن "Fernando Jordi Rotilla" ( من سلاح المدفعية ) واخرهم الملازم "Sánchez Tapia" ( من سلاح المشاة ).
*تاريخ حافل بالمقاومة ..*
في سنة 1968 قمعت بالبلدة، وبأسلوب وحشي، تظاهرة عفوية كانت تطالب باطلاق سراح معتقلين صحراويين، أجبرا على تنظيف ملعب للجنود وتعرضا للضرب العنيف من طرف الحراس الاسبان، إلا أن بذور الوعي السياسي وأولى إرهاصات الحراك الثوري برزت مع ظهور "الحركة الطليعية لتحرير الصحراء" وانضمام نشطاء من سكان البلدة لها ومشاركتهم في مظاهرات الزملة التاريخية 17 يونيو 1970 أين تعرض أمين الحركة بالبلدة ونائبه وبعض المنتسبين من الشرطة والوحدات المتنقلة الى السجن والنفي مع رفاقهم من مختلف ارجاء الوطن.
ومن المعروف ان إستيلاء مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب على حامية "الخنگة" التابعة إداريا للبلدة، كان الحدث الذي دشن مرحلة فاصلة في التاريخ المعاصر للمنطقة باسرها.
تم تأسيس اول فرع ثوري للجبهة الشعبية بالبلدة في اغسطس 1974 وإنضوى تحت لوائه معظم السكان وضم موظفين وجنود ورجال شرطة ومجموعة كبيرة من النساء، وعرف الفرع بالاسم السري: *سفينة نوح*، وترأسه مسؤول ونائبان، وضم مكلفين بفئات : العمال، الشباب، النساء، وجناح فدائي من 30 عنصرا، يمارسون العمل الفدائي السري ليلا ويتفرغون لوظائفهم بالنهار.
وكانت من مهام الجناح الفدائي جمع السلاح والدعم اللوجستيكي للثوار وتوزيع المناشير.
ومن المعلومات الطريفة ان عناصر هذا الجناح اتخذوا من خزان مياه مهجور بمزرعة احد المتعاونين مع السلطات الاستعمارية مستودعا لتخزين ما توفر من الذخيرة والسلاح، وهو أسلوب اثبت نجاعته، كما قامت نفس العناصر في يوليو 1975 بتمويه الشهيد "سيدي حيذوك" في ملابس عمال الطرق، ليتمكن من إلتقاط صور فوتوغرافية للثكنات العسكرية الاسبانية عن قرب.
في 8 مارس 1974 سقط البشير لحلاوي، الشهيد الأول للجبهة الشعبية, في معركة "حاسي معطلا" على أطراف أجديرية الشمالية، وقد احتضنت البلدة رفات ذلك الرمز الذي تغنت به الاجيال. وقد يكون هناك من لا يعرف ان ثاني وثالث شهداء الثورة الصحراوية ( عبد الرحمن ولد عبد الله،العروصي ولد المحفوظ ) اللذان استشهدا اياما بعد ذلك في معركة "آوكيره"بتاريخ 13 مارس 1974 يرقدان على بعد عدة كيلومترات في الشمال الغربي للبلدة.
وروى شاهد عيان قصة انتهاك السلطات الاستعمارية الاسبانية حرمة الموتى، حين اقدمت على استخراج جثمان الشهيد "عبد الرحمن ولد عبد الله"، بعد يومين من دفنه، لتقوم بالتقاط صور له، دون أدنى مراعاة لمعتقدات ومشاعر الاهالي، وهو الامر الذي زاد في تأجيج الكره للمستعمر وإذكاء جذوة النضال.
تنامت الروح الوطنية مع الانتصارات التي حققها الثوار في الميدان ( آگجيجيمات، أرغيوة، .. ) وتحولت خلايا العمل السري الى العلن بعد ان استقطبت جل السكان، وقد نكصت البعثة الاممية لتقصي الحقائق عن زيارة البلدة في ماي 1975، عملا بنصيحة السلطات الاستعمارية التي اعترفت بعدم القدرة على السيطرة على الموقف أو ضمان سلامة أفراد البعثة، في حين غصت البلدة بمناصري وأعلام الجبهة الشعبية.
انسحبت القوات الاسبانية من "أجديرية" يوم 28 اكتوبر 1975، وارتفعت على مبانيها أعلام الجبهة الشعبية، وتولت عناصر معينة من الجبهة تسيير شؤون السكان، وسط فرحة غامرة برحيل الإستعمار وقلق تعززه الإشاعات المنتشرة عن احتمال التعرض لغزو مغربي، وهو ما تأكد لاحقا، حيث كان قدر البلدة ان تكون الهدف الاول لجحافل الغزاة بعد عدة ايام ( 31 اكتوبر 1975 )، حيث اجتاحت المدرعات والدبابات البلدة من عدة محاور، وقد دارت معارك متقطعة ليلتها، ومع عدم تكافؤ ميزان القوى وخشية مقاتلي الجبهة من الإضرار بالسكان، نزح المئات من الشيوخ والنساء والاطفال تحت جنح الظلام، وتعرض من لم يتمكن الهروب الى شتى أصناف الاذلال والإبادة، واقتيد الرجال والشباب مكبلين الى المحتشدات، أين اقلت المروحيات بعضهم الى المجهول، حيث لا يزالون الى اليوم في عداد المفقودين.
شكل اجتياح "أجديرية" المحطة العملية الاولى لاحتلال الصحراء الغربية من الشمال والجنوب وتشريد شعبها ظلما وعدوانا.
وبعد التعامل مع الصدمة كثف مقاتلو الجبهة الشعبية المتواجدون في المنطقة من هجماتهم وعكف التنظيم على تسخير القدرات المحدودة لمواجهة العدوان وحماية النازحين الفارين من بطش الغزاة وتأمينهم في المناطق ذات الغطاء النباتي الكثيف من وادي "الساقية"، وقد ساعدت تضاريس المنطقة الوعرة في ممارسة تكتيكات حرب العصابات ومباغتة العدو باستمرار.
بعد إعلان الجمهورية وتنظيم نواحي جيش التحرير الشعبي الصحراوي توالت الهجومات على القوات المغربية في البلدة حتى تم تحريرها بالكامل يوم 4 يونيو 1979، اين تكبدت فلول العدو خسائر جسيمة، وقد أقامت بها وحدات الإمداد التابعة للناحية العسكرية الاولى مزرعة كبيرة بعد ان حول المحتلون مبانيها الى أطلال.
في شهر ماي 1983 التف حولها حزام العار المغربي، الذي تم بناؤه بخبرات اسرائلية وتمويل امريكي، واليوم لن يتمكن زائرها من رؤية أي من مظاهر الحياة، عدا آثار ضالة الإبل ووحوش البرية وكتلا من الركام يتوسطها خزان مياه إستعصى على التدمير، لكأنما يشئ بان حطام البلدة الصامدة سينبعث يوما ما من الرماد كطائر الفينيق ..
محمد فاضل سلامة اجدود
26 / 09 / 2012