-->

بشار سعيد الداف، أشهر جريح في حرب التحرير يرحل بصمت وبدون جنازة رسمية


على مدى سنوات – منذ سنة 1992م- تخمرت في ذهني فكرة زيارة مركز النخيلة لجرحى الحرب، لكن كل مرة كان هناك من التفاهات ما يحيل دون تلك الزيارة.. في تفكيري الباطني أن زيارة أولئك الأوبطال الذين حبستهم جراحهم عن صخب الحياة بكل تفاصيلها هو مثل زيارة مَعْلَمٍ كبير أوزيارة نوع من الأساطير الحية التي تعيش بيننا.. مع تراكم الوقت وتخمر الفكرة بدأ مركز النخيلة يضمر في جغرافيا أرض الواقع وفي جغرافيا ذاكرات الناس.. استشهد بعض الجرحى وخرج البعض، وأصبح مركز النخيلة للجرحى مختزلا في شخص أشهر جريح فيه، وفي تاريخ الصحراء كلها وفي حرب التحرير، وهو بشار سعيد الداف.. أرتبط مركز النخيلة في ذهنيتنا جميعا ببشار سعيد الداف.. مركز النخلية هو بشار وبشار هو مركز النخيلة المنسي..

حدثت الزيارة في يوم من أيام سبتمر، يوم 6 ربما من سنة 2006م، قررت أن أنفذ الزيارة المؤجلة مئة مرة والمتخمرة طويلا؛ الزيارة إلى مركز جرحى النخيلة، لزيارتهم وللقاء عميدهم بشار سعيد.. الزيارة التي كانت تموت وتحيا دائما في ذهني.. لا هي ميتة ولا هي حية.. كنت دائما اسمع الناس يقولون أنه زاروا بشار؛ التقوا معه.. كل ذلك كان يقوي فكرة أنه أصبح أسطورة، أصبح يختزل مركز النخيلة في جرحه ومركز النخيلة يختزله في تاريخه وصموده.. أختلط تاريخ المركز وتاريخ الرجل وتمازجا حتى لم يعد الإنسان يفرق بينهما.. الكثير من الأساطير نُسجت حول بشار وحول تواجده في ذلك المركز. لا يستطيع أن يتحرك، يتكلم فقط بأصبعه، نصفه مشلول، ولا يتكلم كثيرا.. كان علي أن أقف على الحقيقة، وأقف وجها لوجه مع الرجل الأسطورة الذي تغلب على جرحه وعلى واقع هزم الأصحاء والأقوياء.. 
الشمس تثقب الرؤوس ذلك اليوم، ومركز النخيلة، على عكس مركز الهلال والتعاون، لا تتدفق نحوه السيارات.. مركز منسي في سبخة مالحة مغبرة مخيفة.. العروق التي تُوَّصل إليه مقطوعة وجافة، ولا يوجد في الطريق إلا الخلاء بكل معنى الكلمة.. قررت أن أذهب واقطع راجلا تلك المسافة التي أعتقد أنها تصل إلى ثماني كلمترات.. بعد حوالي عشرين دقيقة أصبحت في وسط السبخة، وبدأتُ في ذهني أستعيد تاريخ السبخة. يقولون أنها كانت تبتلع الجمال، وأنه في بعض الاماكن منها توجد مناطق تنفتح وتبتلع أي شيء يمر بها. صمت قوي يلف المكان. الشمس قوية وقاهرة والعرق بدأ يتصبب كأنما نحن في شهر جويلية.. فجأة ظهت سيارة قديمة دفندر defender "تتكركر" و"تغرغر" تمر مع الطريق الميت المتجه إلى النخيلة. قديما كان الطريق حيا حين كان مركز النخيلة للدجاج مُهماً في حياة المخيمات.. مات مركز الدجاج فماتت الطريق ويبست النخيلة وأمَاتها الملح.. توقفت السيارة لتلتقطني من السبخة التي كانت أساطيرها مخيفة حقا.. في المقدمة ثلاثة رجال وفي الحوض الخلفي إثنان.. كانوا كلهم يلبسون الملابس العسكرية\ التريات.. فتحت الباب الخلفي فدخل معي الكثير من الغبار. إلى أي نخيلة أنت ذاهب؟ إلى نخيلة الدجاج أم إلى نخيلة الجرحى.؟ ضحكوا كلهم وضحكت معهم تلقائيا وأنا أقول لهم أنني ذاهب إلى نخيلة الجرحى.. ذاهب لتزور أحد؟ أريد أن أزور الجرحى والمركز..
المركز مفتوح لشمس سبتمبر الحارة، والصمت يلقي على المكان سطوة عجيبة.. هم أيضا يزرون المركز مثلي.. حين نزلوا أكتشفت أنهم هم أيضا جرحى.. واحد يعرج في مشيته، وواحد يده مسبولة والثالث يخفي فكه المكسور وراء لحية كثيفة، ووحده السائق بدأ لي سليما، لكن قال لي فيما بعد انه مجروح في الصدر. الخامس كان يتأملني كمن يعرفني، لكن يبدو أن ذاكرته لم تهتدئ.. ذهبنا جميعا إلى غرفة بشار سعيد الداف.. أمتلات الغرفة بالضجيج.. " ما فات مت.. مطول عمرك.". ويضحكون، ويضحكون.. هو أيضا، رغم حالته، كاد يقفز من السرير من الفرحة.. " الله إطير الشلوحة من صابهم كسروا حنكك.. مدنى الشلوحة من صابهم قتلوك نتهناو منهك.. " ويضحكون.. ويضحكون.. ثم في الأخير عادوا إلى حقيقة واقعهم .. تبادلوا السلام، ثم بدؤوا يكتشفون أنني غريب بينهم، وأنني قطعة بلا مكان في ذلك الجو.. كنت أريد أن اسمع حكاياتهم مع الحياة ومع التاريخ ومع الجراح ومع تنكُرنا لهم ولتضحياتهم، لكن جوهم جعلني أحس انهم أقوياء، وأنهم يُسلون أنفسهم بالكبرياء وبتخطي الواقع وبتحديه.. ذلك اليوم كان هناك بشار سعيد ورفيق آخر معه. بدأ أولئك الرجال يستخرجون من فقرهم المادي المدقع بعض الهدايا والمستلزمات لبشار ورفاقه.. واحد يستخرج بطاريات راديو، واحد شفرات حلاقة، واحد الشاي. أكتشفت انني الوحيد الذي جاء لا يحمل معه هدايا بسيطة فقيرة.. حان وقت الجد.. بدأت دموع الضحك التي خلفها اللقاء تنسحب تاركة المجال لدموع أخرى خفية يسحقها التحدي. بدؤوا ينظرون إلي كلهم.. أنا لست رفيق معركة ولا رفيق ناحية وهذه أول مرة أزور أولئك الشهداء الأحياء، فلماذا هذه الزيارة إذن؟.. يريدونني أن أبدأ، أن اتحدث، وأنا غير قادر على الكلام.. جوهم ومعنوياتهم كسر كل ما كنت أريد أن أسال عنه.... كيف حالكم مع هذا الواقع الصعب؟ . بشار، رغم أنه مشلول كان يكاد يقفز حماسا وقوة.. "نحن بخير، الحمد لله. المهم أن نرى اللاجئات يعدن إلى الوطن.. شعبنا الحمد لله منتصر".. كلام لم أسمعه منذ زمن طويل. كلام ردمه الوضع والواقع والفساد وما حدث بعد وقف إطلاق النار مما لا داعي لذكره.. ويستطرد الرجل متحدثا بقدرة عجيبة من الحماس عن الوضع في العالم، وفي الصحراء الغربية وفي منطقة المغرب العربي.. له قوة عجيبة على رفع المعنويات؛ قوة لا أظن أن هناك من يمتلكها فوق وجه الأرض، خاصة ممن هم في وضع مثل وضعه الجسدي.. فكرت أن أكتب بعض الخربشات عن قوة معنوياتهم، أنا الذي جئت وفي رأسي فكرة أن أكتب عن جراحهم، خاصة حالته هو الفريدة. أخرجت مذكرة صغيرة من جيبي وقلم لأبدأ أكتب. لكن كانت المفاجأة.. يتدخل بشار بصرامة:" لا نريد أن يكتب أحد عنا أو أنا شخصيا، على الأقل، لا أريد أن يكتب أحد ما عني.." تكسر كل شيء في ذهني... وعدته أن لا أكتب عنه، ولا أكتب أي شيء من حديثه معي في تلك للحظات المحتدمة.. يستطرد الرجل: " كان أصحاب الإعلام يأتون ليسجلون بعض الوقائع لكنني كنت أرفض.. رفضت أيضا أن ياخذون لي صورة.. وإذا اتفق وحدث ذلك فهو بدون إرادتي، أو أكون فعلته تلبية لنداء شعبنا."
يبدأ يتحدث ونحن حوله في صمت عجيب.. " شعبنا سينتصر.. شعبنا قاوم أمريكا والمغرب وإسرائيل." تحس وأنت تستمع إليه أن مفردة "شعبنا" هي شيء عظيم مثل عظمته هو تماما.. تخرج الكلمة من معناها الأعتيادي الذي يعني به الشامتون والذين يستملحون النكت القطيع أو الانسياق الجماعي وتصبح ذات معنى آخر: المعجزات، العظمة. نتذكر تعريف الاشتركيون والثوريون لها: خلق المعجزات بالوحدة والالتحام.. " شعبنا مثل صخرة إذا سقطت عليك ستكسرك وإذا سقطت عليها ستكسرك أيضا."
وأطلب منه ان يحدثنا عن ما أنغض عليه حياته بعد أن أصبح جريحا طريحا في الفراش.؟ لكنه يصمت ينظر إلينا، وفي نظرته تلك إلينا هو يستنطق ذاكرته ووضعه وحالته ويسترجع تاريخه.. شيء متخيل مثل الدموع غير المرئية يلمع في قاع عينيه، لكنه يقهره بمعنوياته ليعود إلى قوته من جديد وحماسه وتعود عيناه إلى صفائهما. " أكثر ما حز في نفسي هو الجرح.." لكن هنا لا يعني الجرح كخدش مادي في الجسد.." كنت دائما أقاتل لامْاً جسدي كله حتى لا أصاب بجرح. في مخيلتي ان الجرح شيء فظيع. هو في الحقيقة فظيع لإنه يجعلك شخصا غير مرغوب فيه.. كنت أريد الرصاصة أو القذيفة ان تقتلني دفعة واحدة، لكن لا أريدها أن تطير بيدي أو رجلي فتتركني جريحا.. لكن سبحان الله حدث الذي كنت أتخوف منه.. اصبحت مشلولا جسديا.. شيء فظيع ان يحدث لك الذي كنت تتخوف منه.." يصمت من جديد ورفاقه يستمعون إليه بجد أيضا..رفاقه الذين حوله يعرفون أن أكثر ما يزعجه هو الحديث عن وضعه الجسدي وجرحه. ويسأله أحدهم: ماذا حدث لك مع " بُوعلبة".؟ يضحكون من جديد بصخب.. يضحك هو ويهز هو رأسه رافضا حكاية ما وقع له مع هذا المجهول بوعلبة.. بشار في تلك اللحظات يترفع عن ذِكر أي شيء له علاقة بالأشخاص، أو بماضيهم خاصة إذا كان سيئا.. حين يجيب بشار بالصمت الميت ينبري الجريح الآخر الذي سأله عن الموضوع ليقول ملطفا الجو:" بوعلبة هذا هو رجل صحيح ومعافي وقوي ، لكن أيام القصف في سنة 1976م، أراد أن يهرب إلى المخيمات.. كان المقاتلون يُرحلون فقط النساء والاطفال والعجزة، لكن ذلك الرجل كان في وضعية سيئة من الجبن والخور.. رفض بعض المقاتلين أن يسمحوا له بصعود شاحنة المدنيين، وقال له البعض أنه يجب أن يبقى معهم يقاتل مثل الرجال.. فقط بشار أنقذه، وغطاه بملحفة وتركه يصعد إلى الشاحنة مع النساء.. لكن تم نحت وجه ذلك الرجل في ذاكرة بشار.. لم ينساه، ليس رغبة في التشهير به ، لكن تلك الواقعة لها ما يجعلها لا تُنسى.. المفاجأة أنه في سنة 1994م جاء " بوعلبة" يزور بشار ورفاقه في مركز النخيلة وهم في وضعهم ذلك يحمل لهم بعض المساعدات.. كان الرجل يلبس ترية رقطاء وجبينه يقطر بالعطر.. جاء ليقف على جرح ذلك الرجل الذي سمح له بركوب الشاحنة مع النساء. هو لا يتذكر بشار وربما نسى الحادثة، لكن بشار يتذكره ووجهه محفور بعمق في ذاكرته.. لحظة مخزية تلك التي حدثت لذلك الرجل حين صعد مع النساء، لكن أخزى منها لحظة زيارته لبشار وهو متعطر متطيب ويلبس لباس شخص مهم وسيارته جديدة.. عرفوه فيما بعد، لكن يتكتمون على اسمه.. سر خاص بهم وحدهم لا يريدون البوح به لأحد.. وضحكوا من جديد.. عاد بشار يتحدث عن ما تتناقله الإذاعات وعن الوضع وعن حتمية أنتصار شعبنا..
مر الوقت سريعا، وقبل أن ينهي بشار حديثه كان سائق تلك السيارة يقول لرفاقه: " ياالله .. خلوه مع الراديو.." وضحكوا من جديد.. ركبت معهم عائدا إلى الرابوني.. بدؤوا يتحدثون عن بشار: رجل وطني من طينة خالصة.. لا يريد من يشوه شعبه او تنظيمه.. هو مخلص رغم واقعه.. " حين يصلون إلى كلمة "واقعه"، " جرحه" يصمتون.. ينظرون إلى الخلاء والغبار خارج السيارة..
استشهد بشار بعد حوالي 34 سنة من العناد مع الجرح ومع الواقع.. كان أقوى من الجرح ومن الواقع.. أمتثلت لوصيته فلم أكتب عنه، ولم أشأ حتى عن أسأله عن ما جئت من أجله.. قررت أن أطوي الصفحة.. لكن في أحد الأيام في قرية صغيرة من قرى كتالونيا بويبلو سيغور، القورية التي ولد فيها كورتينا ماوري وزير خارجية أسبانيا سنة 1975م، والذي دافع عن الشعب الصحراوي حتى النهاية، كانوا يقيمون جنازة دفن رسمية على أنغام موسيقى تعزفها كتيبة عسكرية. قالوا أن الميت جندي كاتالاني بطل في الحرب الأهلية.. تذكرت ذلك المشهد حين استشهد بشار؛ آخر الشهداء الابطال من حرب تحريرنا المقدسة.. رحل الرجل بصمت بدون جنازة رسمية وبدون موسيقى عسكرية او أي شيء.. استقبلتْ تلك الصحراء جسده من أيدينا لتحتضنه فربما تكون أرحم منا.. الآن بعد ان استشهد ها أنا أخالف وصيته بأن لا يكتب أحد عنه؛ أخالفها بوعي تام وبدون ندم..      
السيد حمدي يحظيه

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *