-->

“أوراق بنما” أو عندما تتساقط “أوراق التوت” المغربي

مرة أخرى اكتفى محيط القصر الملكي ببيانات وتصريحات محامي القصر: “لاشي يحدث، كل الأمور جرت بشكل طبيعي وفي إطار القانون، انصرفوا..”. أما الحكومة والبرلمان والنيابة العامة والأجهزة الأمنية والإعلام الرسمي والخاص، وأستثني المستقل منه، فالكل التزم الصمت.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتكرر فيها مثل هذا السيناريو، فقد سبق أن شاهدنا شيئا مماثلا مع قصاصات “وكيليكس” و”سويس ليكس” وقبل ذلك فضيحة خسارة شركة “سيجر” التي تدير محفظة استثمارات الأسرة الملكية في المغرب لـ 400 مليون دولار عام 2009 بسبب استثمارات غير موفقة في شبه جزيرة “مكاو” الصينية التي تشتهر بانتشار الكازينوهات وألعاب القمار .
سينسى الجميع قصة “أوراق بنما”، كما نسي القصص السابقة، في انتظار أن تأتي قصة أخرى، وكل مرة تكون القصة المقبلة أكبر وأخطر من التي سبقتها، ومع ذلك فإعادة تكرارا مثل هذه القصص الفضائحية إنما يزيد من مناعة أبطالها لأن طريقة ردود أفعالهم غير المبالية والمحتقرة للرأي العام، تجعل الجمهور يطبع مع روائحها النتنة.
لقد تابعنا كيف أدت “أوراق باناما” إلى إسقاط رئيس وزراء إيسلندا، لأن زوجته ورد ذكر إسمها كمستفيدة من خدمات مكتب المحاماة البنمي الذي كان يساعد زبنائه على التهرب الضريبي. ورأينا كيف أخضع البرلمان البريطاني رئيس الوزراء دافيد كامرون لجلسة محاسبة عاصفة، بعد ورود اسم شركة كان يديرها والده ضمن زبناء نفس المكتب البنمي، وتداعيات هذه القضية مازالت تتفاعل في بريطانيا ومعها تتآكل شعبية رئيس وزرائها الذي لن يحالفه الحظ، بسبب هذه الفضيحة، في تجديد ولايته.
في المغرب، كانت هناك أربعة أنواع من ردود الفعل وكلها غير رسمية رغم أن بعضها صدر عن جهات شبه رسمية أو رسمية. رد الفعل الأول، شبه الرسمي، هو الذي صدر عن “محامي القصر”، الذي حاول التبخيس من حجم القضية، عندما ادعى أن كل الإجراءات التي قام بها موكله، أي الكاتب الخاص للملك محمد السادس، قانونية، لكنه لم يبين على أي قانون استند لإنشاء شركات في الخارج، وتحويل أموال إلى الخارج وتسجيل معاملات تجارية باسم شركات مسجلة لدى مكتب محاماة بنمي يوجد اليوم في قلب فضيحة عالمية لشبهة مساعدته زبنائه في التهرب الضريبي.
رد الفعل هذا شبه الرسمي، صدر عن “محامي القصر”، وهذا لقب جديد ابتدعته الصحافة، لأنه لا وجود لمؤسسة رسمية ناطقة باسم القصر تحمل هذا الاسم، مهمة محامي القصر الترافع والدفاع عن مصالح موكله أمام الرأي العام. أما مخاطبة الرأي العام المغربي فتتطلب قليلا من الاحترام، لأن الرأي العام ليس خصما للقصر حتى يخاطبه عبر محاميه.
الكل يعرف أن في المغرب توجد لدى القصر الملكي عدة مؤسسات رسمية تتلقى ميزانيتها من أموال دافعي الضرائب، هي وحدها الكفيلة والمخولة للحديث باسم القصر رسميا ومخاطبة الرأي العام بهذه الصفة. هناك وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة، ومؤسسة الناطق الرسمي باسم القصر الملكي، ومؤسسة الديوان الملكي، والكتابة الخاصة باسم الملك. لكن أيا من هذه المؤسسات لم تخرج عن صمتها لتشرح للرأي العام ما راج حول علاقة القصر بـ “أوراق بنما”.
رد الفعل الثاني، شبه الرسمي، هو ذلك الذي عبرت عنه بعض وسائل الإعلام الخاصة المقربة من بعض دوائر السلطة في المغرب، والتي انبرت للدفاع عن المجيدي ومن يقف خلفه، وفي نفس الوقت مهاجمة كل من طالب بفتح تحقيق في الموضوع أو فقط حاول البحث والتحري عن أسباب وجود اسم الكاتب الخاص للملك في الوثائق التي مازالت تداعيات نشرها تتفاعل عالميا.
إن فضيحة “أوراق بنما”، مغربيا، هي بالدرجة الأولى أخلاقية، لأنها عرت جانبا من “الحماية” غير القانونية التي تحيط ببعض الأشخاص النافذين والقريبين من المحيط الملكي ممن يضعون أنفسهم فوق كل الناس وخارج كل القوانين.
أما رد الفعل الرسمي، الواضح حتى الآن، فجاء على شكل تدخل عنيف لقوات الأمن العمومية المغربية التي منعت وقفة رمزية دعا لها مواطنون للاحتجاج على صمت الحكومة والبرلمان ومؤسسة النيابة العامة على ما ورد في تلك الوثائق التي حملت اسم الكاتب الخاص للملك باعتباره صاحب شركة كانت تتعامل مع مكتب المحاماة البنمي الذي يجري اليوم التحقيق في سلامة معاملاته.
وعودة إلى ما كشفت عنه “أوراق بنما” من وجود أسماء مغربية نافذة تلجا إلى خدمات شركات مشبوهة متورطة في مساعدة زبنائها على التهرب الضريبي، فهو يبقى مجرد الشجرة التي تخفي الغابة.
فما كشفت عنه هذه الأوراق يخص فقط مكتبا واحدا في منطقة واحدة من بين أكثر من 80 منطقة “أوف شور” في العالم توفر ملاذات ضريبية آمنة للأثرياء ولأصحاب النفوذ في العالم، وهو ما يٌفترض احتمال وجود أسماء مغربية أخرى في ملاذات ضريبية أخرى.
وإذا كان ما تسرب حتى الآن من “أوراق بنما” قد كشف فقط عن اسم منير المجيدي، الكاتب الخاص للملك، فقد سبق لهيئة “النزاهة المالية العالمية” (غلوبل فاينانس انتغريتي) أن كشفت في تقريرها الصادر عام 2014، أن المغرب فقد ما يناهز 10 ملايير دولار في عشر سنوات (مابين سنتي 2003 و 2012) نتيجة تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، أي بمعدل أكثر من 900 مليون دولار أمريكي سنويا.
ولم يكن ذلك التقرير هو الأول الصادر عن نفس الهيئة، فقد سبق أن أصدرت تقريرا مماثلا كشفت فيه أن المغرب فقد في الفترة ما بين 1970 و 2008، أي ما يقارب أربعة عقود، زهاء 41 مليار دولار أمريكي. كما سبق لمؤسسة بوسطن الأمريكية أن أشارت إلى أن 30 في المائة من ثروات العائلات الغنية في المغرب موجودة في حسابات بنكية في سويسرا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى.
وإذا كانت كل هذه الأرقام معروفة في المغرب، بل وحتى الأسر المستفيدة من مثل هذه الأموال المهربة تكاد تكود معلومة، فإن السؤال الذي يطرح اليوم هو لماذا لم تطالب الحكومة المغربية رسميا الدول الأوربية خاصة سويسرا وبريطانيا التي تفتح مصارفها حسابات بنكية لمغاربة يقيمون في المغرب، بتزويدها بأسماء أصحاب تلك الحسابات، كما فعلت دول أوربية أخرى، مثل فرنسا، ونجحت في استرجاع ملايير الدولارات المهربة .
ما قامت به الحكومة المغربية حتى الآن هو عملية إعفاء ضريبي لتشجيع مهربي الأموال لإعادتها إلى المغرب، ونجحت عام 2014 في استرجاع نحو 1.3 مليار دولار، لكن هذه الحصيلة تبقى ضعيفة جدا إذا ما قورنت بقيمة الأموال التي تهرب سنويا، ومصادر غالبيتها، طبقا لتقارير دولية، تأتي من الجريمة والرشوة ومن التهرب الضريبي.
ومن هنا فإن فضيحة “أوراق بنما” تكتسي أبعادا أخرى، فبالإضافة إلى البعد القانوني والقضائي، يأتي طرح السؤال السياسي والأخلاقي لهذه الفضيحة بما أن المشتبه في تورطه في معاملات مشبوهة مع مكتب محاماة بنمي مشبوه، هو السكرتير الخاص للملك، وفي هذا إحراج كبير للمؤسسة الملكية. ففي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة إلى استجداء مهربي الضرائب في المغرب لإعادة أموالهم للبلاد، يكتشف الرأي العام المغربي أن السكرتير الخاص للملك يدير شركات في الخارج معاملاتها بملايين الدولارات، وأكثر من ذلك تتعامل مع مكتب محاماة أجنبي يشتبه في مساعدته زبنائه على التهرب الضريبي.
وإذا كانت بالفعل كل الإجراءات التي قام بها السكرتير الخاص للملك قانونية، حسب قول محاميه، فلماذا لجأ إلى إخفاء معاملاته التجارية عن أنظار الرأي العام المغربي، باللجوء إلى أساليب مشبوهة، وبالتعامل مع مكتب محاماة مشبوه، وفي منطقة من العالم معروفة بأنها ملاذ للهاربين من أداء الضرائب لدولهم؟ ! وقبل ذلك كيف نجح هذا الشخص في إخراج الأموال التي أسس بها شركاته وهل تم ذلك بعلم السلطات الضريبية في المغرب؟
وهي أيضا تفضح نفاق كل الخطابات السياسية الرسمية، بما فيها وعلى رأسها خطابات الملك، التي تتحدث عن التنمية والعدالة الاجتماعية، والوطنية والانتماء إلى الوطن، ومكافحة الفساد، ومحاربة الفقر والهشاشة الاجتماعية، في حين أن أحد أقرب المقربين منه، ومدير كتابته الخاصة وثروته العائلية فتح لنفسه، بلا خجل، لا ندري هل حدث ذلك بعلم الملك، مع أنه الآن بات يعلم، مسارب لإخراج العملة من البلاد واستثمارها في الخارج في وقت يوجد فيه المغرب في أمس الحاجة إلى كل درهم منها.
الجانب الآخر المدوي في هذه الفضيحة هو ما عرته من استشراء “ثقافة الخوف” داخل المجتمع، خوف الناس وخوف جزء كبير من نخبتنا المثقفة والسياسية والحقوقية والإعلامية بلا استثناء، إلا من رحم ربك. الخوف من تناول الموضوع ومناقشته وطرحه بل وحتى الحديث عنه أمام الملأ كما جرى مع عدة وزراء. وما كشفت عنه من عجز كل المؤسسات “الدستورية” عن التحقيق في الموضوع من حكومة وبرلمان وقضاء، وأجهزة، ومجلس أعلى للحسابات، وهيئات للمنافسة والشفافية، ومجالس اجتماعية وحقوقية رسمية.. الكل التزم الصمت، وهو صمت مخجل يدين أصحابه بتهمة التواطؤ على إخفاء الحقيقة.
قد تنجح الدعاية الرسمية في إلهاء الناس بمواضيع تافهة لغض الطرف عن حجم الفضيحة الأخلاقية وأبعادها السياسية، وقد ينجح القمع في إخراس كل الأصوات المنددة بها أو المطالبة بفتح تحقيقات حولها، لكن ذلك لن يؤدي إلى وقف انتشار المعلومات التي تكشف كل يوم عن حجم الفساد المٌتمنع عن كل مراقبة أو محاسبة قانونية. ولن يمنع الناس من الوقوف على زيف الخطابات السياسية ونفاق أصحابها الذين يدعون الشعب إلى شد أحزمة التقشف بينما هم يبذرون أمواله في نعيم جناتهم الضريبية.
لقد أسقطت “أوراق بنما” بعضا من أوراق التوت عن الفساد المغربي المقدس، وهذا وحده كفيل بأن يجعله عاريا أمام الناس مهما حاول التستر على كل عوراته التي تٌفتضح فضيحة بعد أخرى ويوما بعد يوم.
بقلم الصحفي علي انوزلا.

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *