المستعمرة المنسية: الصحراء الغربية المحتلة
تعتبر الصحراء الغربية آخر مستعمرة إفريقية وثاني مستعمرة عربية بعد فلسطين، وأكثر القضايا تغييبًا في الأوساط التقدمية والشعبية في العالم العربي، وذلك يمكن إرجاعه لأسباب عدة منها انحياز الأنظمة الديكتاتورية القائمة للاحتلال المغربي، والانحياز الإعلامي الذي يتعمَّد تغييب صوت الشعب الصحراوي وتصوير القضية من منظور النظام المغربي. يمكن القول أيضًا إن الالتحام القوي الذي ساد بين الثوار الصحراويين والقوى التقدمية العربية، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، شهد فتورًا في العقود الماضية مما أثَّر على حضور القضية داخل السياق التحرري العربي.
ولكي نُرجِع القضية الصحراوية للاهتمام العربي بشكل صحيح، علينا وضعها في السياق التاريخي والسياسي للمغرب الكبير بشكل عام، وقراءتها في ضوء صراع قوى الاستعمار والأنظمة العميلة له وإرادة الشعوب في الحرية، لذلك سنستعرض في هذا المقال أهم المحطات التاريخية التي خاضتها هذه القضية والتعرف على نضالات الشعب الصحراوي.
وتعتبر مدينة الداخلة منطقة فلاحية[2] تنتج أنواعًا ذات جودة عالية خصوصًا من الطماطم وتتوفر الصحراء الغربية على ثروةٍ هائلة من الفوسفات حيث يوجد في منطقة بوكراع قرب مدينة العيون أكبر منجم منفرد للفوسفات في العالم[3]، وتزخر الصحراء الغربية بالمعادن مثل الذهب، والياقوت واليورانيوم، والتي تخضع للاستغلال تحت حراسةٍ مُشدَّدة من الجيش المغربي وقوات الدرك، وخصوصًا بمنطقة كليبات الفولة ولحجيرة التي تقع 200 كيلومتر جنوب الداخلة[4].
أما الشعب الصحراوي، فيُعرَف بأنه ذو أصول عربية-أمازيغية، مُتكوِّن من مجموعة قبائل اندمجت فيما بينها وكوَّنت الثقافة الصحراوية. الحسانية هي اللهجة الرسمية في الصحراء الغربية وهي مزيج من اللغة العربية الفصحى والأمازيغية الصنهاجية.
شكَّلَت القبائل تنظيمًا سياسيًا واجتماعيًا ذا سمةٍ فيدرالية يتميَّز عن باقي التنظيمات السياسية في المنطقة، وهو ما يُعرَف بمجلس “أيت أربعين”، هذا التنظيم السياسي الذي ساد قبل وأثناء الاستعمار الإسباني. ولم تعرف الصحراء الغربية أيَّ سلطة للأنظمة المجاورة بل تلخصت علاقاتها بهم في العلاقات التاريخية والدينية كما بيَّن على ذلك قرار محكمة العدل الدولية في سنة 1973[5].
إذ أدى النمو السريع للرأسمالية في أوروبا إلى تزايد المطامع الاستعمارية التي تصارعت على مواطن النفوذ والثروة، فكانت اتفاقية برلين 1884 بدايةً لتوسُّع هذه القوى في إفريقيا، حيث مُنِحَت إسبانيا بشكلٍ رسمي النفوذ على الصحراء الغربية، لكنها بقيت لخمسين سنة تتواجد في الإقليم عن طريق اتفاقيات تجارية في السنوات 1884 حتى 1887 مع القبائل الصحراوية، والتي كان من بين بنودها أن يبقى تواجدها منحصرًا في الشواطئ الصحراوية “كبوجدور” و”لگويرة” و”الداخلة”، وعدم التعرُّض لأي صحراوي أو التوغل في باقي المناطق.
ظلَّت إسبانيا تنشط في الشواطئ الصحراوية بهذه الطريقة حتى العام 1934، حين قرَّرَت بسط نفوذها على كامل التراب الصحراوي عن طريق الغزو العسكري[7]، وهو ما أفضى إلى التصادم مع المقاومة التي حشدت المجتمع الصحراوي لخوض المعارك المسلحة ضد هذا الغزو، وشهدت أوجها منذ العام 1957 في معارك مثل “الدشيرة” و”لگلات” و”أكفيون” التي تعاونت فيها إسبانيا وفرنسا ضد المقاومة الصحراوية، مما أفضى لسقوط مئات الشهداء؛ جثامين عدد منهم ترقد في مقبرة الشهداء في منطقة “لگلات” -150 كلم قرب مدينة الداخلة[8].
ومن هنا ظهرت الحركة الطليعية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (الصحراء الغربية)[9] في نهاية 1969 بقيادة الفقيد سيد إبراهيم لبصير (بصيري) التي كان من أهدافها تعبئة الجماهير من عمال وكادحين لتنظيم الاحتجاجات والتحرير الكامل للصحراء الغربية من الاحتلال الإسباني وإقامة دولة مستقلة.
وفي 17 يونيو 1970 نظمت الحركة في مدينة العيون مظاهرةً سلمية ضد السياسة الاستعمارية الإسبانية، سُمِّيَت بـ”الزملة”[10]، رُفِع فيها شعاراتٌ ترفض الاندماج، وتطالب بتدريس اللغة العربية وخروج إسبانيا، وتدين تهجير الشباب الصحراوي، وتحديد زمن لانسحاب إسبانيا، وإيقاف الاستيطان الإسباني والسيطرة على الموارد.
جوبهت هذه المظاهرة السلمية بقوة السلاح من قبل الاستعمار الإسباني، حيث قُتِلَ وجُرِحَ عددٌ كبير من الصحراويين وزُجَّ بالمئات في السجون، كان من بينهم زعيم الحركة بصيري الذي ترفض إسبانيا الكشف عن مصيره لليوم!
ورغم وحشية الرد الاستعماري الذي قضى على المنظمة الطليعية، كان ذلك دافعًا لتطوير المقاومة وفق الظروف الجديدة. وفي هذا الإطار سعت مجموعةٌ من الشباب الصحراوي في التحضير لتأسيس حركة سياسية عسكرية، قادرة على خوض معركة التحرير ضد المستعمر الإسباني وقيادة الجماهير الصحراوية إلى تحقيق هدفها، المتمثل في الحرية والاستقلال.. فكان ميلاد الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (جبهة البوليساريو) في 10 مايو 1973، خلال مؤتمرها الأول الذي قرر تأسيس جناحيها العسكري والسياسي، متخذةً من الكفاح المسلح وسيلةً للمقاومة بهدف الاستقلال والحرية للشعب الصحراوي.
وعرَّفَت نفسها بأنها :”حركة تحرير وطنية، وثمرة مقاومة صحراوية طويلة ضد مختلف أشكال الاحتلال الأجنبي، ينضوي في إطارها، على أساس طوعي وفردي، كل الصحراويين الذين يؤمنون بمبادئ ثورة 20 مايو ويلتزمون باحترام قانونها الأساسي وبتطبيق برنامج عملها الوطني في كفاحهم من أجل الاستقلال التام واسترجاع سيادة الشعب الصحراوي”[11].
تبنَّت جبهة البوليساريو “خطاب الكفاح المسلح والعنف الثوري”، كما أوضحت في بيانها التأسيسي الصادر 10 مايو 1973 بالقول إنه إزاء تشبُّث الاستعمار بالمنطقة مسيطرًا، فإنها تتَّخذ من “العنف الثوري والعمل المسلح وسيلةً للوصول بالشعب الصحراوي العربي الإفريقي إلى الحرية الشاملة من الاستعمار الإسباني وضرب مؤامراته”، وهو الأمر جسَّدته في أول معركة عسكرية تمثَّلت في تحرير مفجر الثورة الشهيد الولي وبعض من رفاقه من السجن حيث تألَّفَت الخلية العسكرية الأولى من 45 مقاتلًا، ونفَّذت أول عملية عسكرية يوم 20 مايو 1973 “عملية الخنقة”[12].
ورغم أن الكفاح المسلح بدأ ببنادق صيد، فقد تمرَّسَ المقاومون في أساليب “حرب العصابات” ثم عرفت المقاومة نموًا سريعًا، خصوصًا بعد الالتحاقات المتزايدة بصفوفها وحصولها على معدات حديثة بعد غنمها من العدو [13] حتى أصبح في إمكانها في نهاية 1974 خوض أعمال فدائية نوعية، كان من أبرزها تفجير الحزام الناقل للفوسفات لأنه يعتبر شريانًا اقتصاديًا مهمًا ومؤثرًا للمستعمر، ونفذت العملية يوم 20 أكتوبر 1975[14].
أمام الهجمات المتكررة، اضطرت القوات الإسبانية للانسحاب من العديد من المناطق أمام ضربات جيش التحرير الشعبي المتوالية، مما جعلها تدخل في مفاوضاتٍ مع جبهة البوليساريو 9 سبتمبر 1975، لجس نبض المساومة. وأمام التشبُّث الصحراوي بالاستقلال والسيادة التامة على الثروات سيبدأ فصلٌ جديد في القضية الصحراوية وهو الممتد لليوم.
سبق هذا تنسيقٌ أمني وعسكري بين إسبانيا والمغرب وموريتانيا، بعد تصاعد الكفاح المسلح، حيث شكَّلَت الملاحقة الأمنية والتصفية الجسدية ضد الشباب والطلبة الدارسين بهذه البلدان الجزء الأكبر من عملية التنسيق السياسي والعسكري الشامل، والذي شهد تصاعدًا وكثافةً في الأشهر الأخيرة من عام 1975، وكانت اتفاقية مدريد الترجمة الفعلية لهذا التواطؤ حيث وُقِّعَت بين دولة الاحتلال المغربي والجمهورية الإسلامية الموريتانية والمملكة الإسبانية[16].
وبموجب هذه الاتفاقية في 14 نوفمبر 1975، قُسِّمَت الصحراء الغربية إلى نصفين: الجزء الشمالي تحتله المملكة المغربية والجزء الجنوبي شهد غزوًا من موريتانيا. وتتألَّف هذه الاتفاقية من:
وثيقة أطلق عليها اسم”إعلان المبادئ”، وتنص على عملية تقسيم الأرض -الصحراء الغربية المحتلة آنذاك من طرف إسبانيا- بين المغرب وموريتانيا، بالإضافة إلى مجموعة اتفاقيات تتعلَّق بالصيد والتعاون الاقتصادي والصناعي، واتضح فيما بعد أن تنازل إسبانيا كان مقابل إشراكها في استغلال مناجم الفوسفات بالأراضي الصحراوية، وبقاء أسطول صيدها البحري في المياه الإقليمية الصحراوية وبضمان قاعدتين عسكريتين لها قبالة جزر الكناري. وأوضحت الوثائق السرية التي كشفت عنها الـ CIA[17] مؤخرًا كيف شكَّلَ وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كسجنر الحجر الأساس في هذه الاتفاقية من خلال هندسة اتفاقية مدريد التي تقضي بتسليم الصحراء الغربية للمغرب وموريتانيا مقابل الحصول على الدعم السياسي الأمريكي الكامل في مسيرته المقبلة كملك لإسبانيا[18].
بموجب الاتفاقية، حاولت إسبانيا التنصُّل من مسؤوليتها القانونية في استكمال تصفية الاستعمار من الإقليم والذي كان مفروض أن ينظم بذات السنة[19]. وهنا تجدر الإشارة أنه، عبر مساندة المغرب لهذا الاستفتاء وحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره قبل أن يقرر أن يدخل في احتلاله حيث أعلن ممثل المغرب “داي ولد سيدي بابا”، أثناء اجتماع اللجنة الخاصة في 17 يونيو 1966 بأديس أبابا (إثيوبيا) أن “الحكومة المغربية تؤكِّد على أنه يجب تحرير جميع الأراضي الواقعة تحت هيمنة الاستعمار الإسباني”، مضيفًا أن “الحكومة المغربية تقترح استقلالها في أقرب الأجل”. وخلال الدورة التي تلتها للجنة الخاصة، أكَّد مفوض المغرب على أنه “منذ 1966 والمغرب يطالب بتقرير مصير سكان الصحراء الغربية وحرية الاستقلال”[20].
وقبل أشهر من توقيع هذه الاتفاقية قامت بعثة أممية لتقصي الحقائق في مايو 1975 بزيارة مدن العيون والداخلة[21]، بهدف دراسة المعطيات السياسية والاجتماعية والديموغرافية لإجراء استفتاء تقرير المصير الذي طالبت به الأمم المتحدة منذ 1966[22].
وأصدرت تقريرها في 15 أكتوبر من نفس السنة أيام قليلة قبل الغزو العسكري المغربي والموريتاني للمنطقة. وجاء فيه استقبال الجماهير الصحراوية للبعثة بصور العلم الصحراوي وشعارات من قبيل “فويرا إسبانيا” (فلتخرج إسبانيا)، والمناداة بحياة البوليساريو كممثل وحيد للشعب الصحراوي، وعبَّر التقرير كذلك عن رغبة الصحراويين في الاستقلال ورفضهم الانضمام لأي من الدول المجاورة[23].
وردًا على هذه الاتفاقية، وتعبيرًا عن رغبة الشعب الصحراوي في الاستقلال ورفض التبعية والاحتلال، أعلنت الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب بقيادة الشهيد الولي مصطفى السيد يوم 27 فبراير 1976، أي بعد يوم واحد من جلاء آخر جندي إسباني، قيام الجمهورية الصحراوية الديمقراطية، تجسيدًا لتطلُّعات وآمال الشعب الصحراوي وشهدائه في الحرية[24].
ولابد أن نذكر في هذا السياق بأن إسبانيا قامت بتسليم المغرب كل أرشيف مخابراتها عن لوائح وملفات تخص المناضلين والمناضلات التي كانت بمثابة إرشادات نافعة في ملاحقة التنظيم الثوري والناشطين/ات فيه وارتكاب مجازر الإبادة[27].
وإبان الاجتياح المغربي الموريتاني، هاجر آلاف الصحراويين نازحين خارج أرضهم نحو جنوب الجزائر التي فتحت حدودها أمام اللاجئين/ات لإنقاذ أرواحهم من النظام المغربي والموريتاني الذي يجتاح وطنهم مستعملًا الدبابات والطائرات والقذائف، حيث تعرَّض الصحراويون الفارون من الغزو العسكري لقصف دام ثلاثة أيام بقنابل النابالم والفسفور الأبيض المحرمة وخلف آلاف الشهداء/ات ومئات الجرحى بين المخيمات الصحراوية (أم دريگة، وتفاريتي، وآكطي)[28] التي كانت تأوي ما يزيد عن 25 ألفًا في معظمهم من النساء والشيوخ والأطفال، حسب مصادر الهلال الأحمر الصحراوي وقتها (انظر عدد جريدة الصحراء الحرة مارس 1976)[29].
وفي يوم في السادس عشر من أكتوبر 1975 أعلن الحسن الثاني “المسيرة الخضراء”[30] أيام قبل الإعلان الرسمي عن اتفاقية مدريد حيث ستكون هذه المسيرة الاستيطانية بمثابة تغطية على الغزو العسكري وفي 26 أكتوبر 1975 بدأ تنظيمها في الأراضي المغربية بتخطيط وتنظيم لوجستي من فنيين أمريكيين وبمشاركة ودعم السعودية[31].
في بداية نوفمبر غزت “المسيرة الخضراء” الصحراء الغربية[32] بموجب الإتفاق السري بين كيسنجر والحسن الثاني وخوان كارلوس الأول.
وصرَّح الملك المغربي الحسن الثاني في خطابه الشهير المُصوَّر[33] عن نية الإبادة التي ينويها النظام المغربي تجاه الصحراويين، إذ قال من خلاله: “إذا وجدتم الإسبان فتقاسموا معهم الخبز والماء.. وإذا وجدتم غيرهم [في إشارة للصحراويين] فجيشي معكم”، مخاطبًا حشود المستوطنين المدنيين الذين جيء بهم رافعين المصاحف للتغطية على الاجتياح العسكري وجرائمه السالفة الذكر[34].
ولا يزال إلى اليوم يعيش ما يقارب 200 ألف لاجئ/ة من الصحراويين بمخيمات بالجنوب الغربي للجمهورية الجزائرية والآلاف في الشتات في دول المهجر رافضين العودة لأرضهم الصحراء الغربية سوى بتمكينهم من حقهم غير القابل للتصرف المتمثل في تطبيق الحق في تقرير المصير عبر استفتاء حر ونزيه تتحدد من خلاله الهوية السياسية النهائية للإقليم المحتل.
ولكن استمرت الحرب بين الجبهة والمملكة المغربية حتى سنة 1991، حيث وقع اتفاق وقف إطلاق النار على أساس تنظيم استفتاء تقرير المصير للشعب الصحراوي، الذي تماطل البعثة الأممية لتنظيم الاستفتاء بالصحراء الغربية المعروفة اختصارا بـ”المينورسو” في تطبيقه ولا تزال تعرقله دولة الاحتلال المغربي منذ ذلك الحين إلى اليوم.
سيطرت مملكة الاحتلال المغربي على حوالي 70% من الصحراء الغربية، حيث توجد معظم الثروات التي سيطرت عليها بالقوة منذ سنة 1975، وأمعنت في تعريض الصحراويين مالكي الأرض من المدنيين لأبشع صنوف الإبادة من قبيل الرمي من الطائرات، وتسميم الآبار، والاختطاف، والإخفاء القسري، والقتل خارج القانون، وتحت التعذيب في المعتقلات السرية (اكدز ومگونة)[35]، وهو ما وثقته العديد من المنظمات الدولية المعنية بالدفاع عن حقوق الإنسان في العالم، إذ تقول الإحصائيات الدولية أن هناك ما يزيد عن 500 مفقود صحراوي مجهول المصير من المدنيين، علاوة على المقابر الجماعية التي تُكتَشَف[36] بشكل مستمر أُعدِم ضحاياها رميًا بالرصاص من قبل الجيش المغربي إبان اجتياحه للصحراء الغربية[37].
ويفصل المغرب الصحراء الغربية بجدار رملي ملغم يبلغ طول أكثر من 2000 كلم[38]، حيث شرع المغرب سنة 1980 في بنائه، لعزل الجزء الذي توفر على الثروات من الصحراء الغربية، ولمنع تقدم مقاتلي جيش التحرير الشعبي الصحراوي، وقد كان ذلك في أوج المواجهة المسلحة. يبلغ ارتفاع الجدار (الموزع على عدة أقسام) حوالي 2.5 متر وطول قدره 2.720 كيلومتر. ينتصب الجدار على حيطان من الحجارة والأسوار، ومدعم بستة أو سبعة ملايين لغم مضاد للأفراد، إلى جانب تقسيمه للشعب الصحراوي إلى قسمين[39].
ويتواجد اليوم في السجون المغربية الكثير من المعتقلين/ات، اعتُقِلوا/اعتُقِلن بسبب مواقفهم/ن السياسية من القضية الصحراوية وأنشطتهم/ن النضالية بالجزء المحتل من الصحراء الغربية والمواقع الجامعية المغربية[40]، حيث تصل بعض الأحكام التي نطق بها قضاء دولة الاحتلال لعشرات السنوات والمؤبد انتقامًا من دور هؤلاء النشطاء/ات في المعركة النضالية السلمية التي تقودها الجماهير الصحراوية[41].
الصحراويون الذين يعيشون بالأجزاء المحتلة من الصحراء الغربية انتفضوا رغم واقعهم الصعبة، فانطلقت الانتفاضة الشعبية سنة 2005[42] حيث حملت الجماهير الصحراوية الأعلام الصحراوية وعبَّرَت عن رفضها للتواجد غير الشرعي للمغرب في الصحراء الغربية[43]، فواجهتهم السلطات المغربية بالقمع والاغتيالات ولكنها لم تنجح في كسر شوكة الجماهير التي استمرت في الخروج للشارع، وسطرت مراحل نضالية مهمة في تاريخ الشعب الصحراوي كمرحلة مخيم اكديم إزيك سنة 2010[44] والذي وصفه المفكر اليساري الشهير نعوم تشومسكي بشرارة الربيع العربي[45] ومرحلة مسيرات 4 مايو 2013[46] وغيرها من الأحداث التي قادتها الجماهير الصحراوية للمطالبة بمطالب واضحة متمثلة في الحرية والاستقلال ورحيل الاحتلال المغربي من أرض الساقية الحمراء وواد الذهب -الصحراء الغربية.
إلا أن سيطرة الاحتلال المغربي على الجزء الذي يتوفَّر على الثروات سيغير المعادلة لصالحه[47]، فالدخول في مسار المفاوضات والمماطلة الدولية التي لا تولي أي اهتمام لحق الشعوب في تقرير مصيرها سيعيد رسم الوجه القديم الجديد للقضية، منطقة غنية بالموارد وتشكل نقطة التقاء للمصالح الإمبريالية الغربية والعربية، مقابل ذلك أظهر وقف الكفاح المسلح والاكتفاء بالوعود الأممية البون الشاسع بين شعب أعزل يناضل من أجل استقلاله وبين نظام احتلال مدعوم دوليًا من النظام الرأسمالي العالمي ممثلًا في الشركات متعددة الجنسيات والتي تنشط جنبا إلى جنب مع الاحتلال المغربي في استغلال ثروات وموارد الصحراء الغربية مقابل تجويع وتطويق وتشريد الشعب الصحراوي على الجهتين.
هذا الاستغلال الذي تقوم به شركات أوروبية وتصادق عليه مفوضيات الاتحاد الأوروبي في اتفاقيات الفلاحة والصيد البحري مع الاحتلال المغربي، تغطي عليه بقرارات تداعب بها الشرعية الدولية في حين تنتهكها في ازدواجية خطيرة فرغم أن محكمة العدل الأوروبية أصدرت في عدة تقارير لها منذ 2015 إلى 2019 وبالخصوص في نص القرار الذي صادق عليه المجلس الأوروبي بتاريخ 4 مارس 2019 والذي يتضمَّن بشكل واضح تحديد الوضع القانوني والسياسي للصحراء الغربية كإقليم خاضع لتصفية الاستعمار، والوضع القانوني والسياسي للمغرب كقوة احتلال لا سيادة لها على الإقليم[48]. إلا أن الاتحاد الأوروبي، بتأثير مباشر من فرنسا وإسبانيا، يتمادى في دعمه للاحتلال المغربي في تجاهل تام لقرارات محكمته[49]، ويواصل تجديد الاتفاقيات مع الاحتلال التي تمكن شركاته من استغلال الثروات الصحراوية.
ومع استمرار المماطلة وارتهان القيادة الصحراوية لخطاب “الشرعية الدولية” وانتظار أن تقوم الأمم المتحدة المحكومة من ذات الدولة التي تنهب ثروات الصحراء الغربية وتديم احتلالها باتخاذ قرار تمكين الشعب الصحراوي من تقرير المصير، يعيش الأخير سخط غير مسبوق ضد هذا الفتور حيث يعتبر أغلب الشباب خصوصا ممن ولدوا وعاشوا في اللجوء أو تحت الاحتلال أن إيقاف استنزاف الثروات وخروج الاحتلال مرهون بالعودة للكفاح المسلح. فلا يمكن نسيان السبب في معاناتهم وهو ما توضحه الباحثة الأكاديمية الإسبانية روثيو ميدينا مارتين قائلةً:
“إن الذهاب إلى مخيمات اللاجئين واللاجئات الصحراويين يمكِّن من معاينة بنية هيمنة في الأجساد وفي المعيش اليومي للكائنات البشرية: لا يمكننا نسيان السبب وراء النزوح سنة 1975، ولا الدافع الذي أدى إلى حرق مجموعات من النساء والصبية والصبيان بقنابل النابالم، ولا نسيان علاقة ذلك باستغلال الموارد الطبيعية للصحراء الغربية. إذن، وانطلاقًا من زاوية النظر تلك، ندرك أن الأصل في قضية الصحراء الغربية هو استغلال الموارد، وهو أمر لا يمكننا نسيانه البتة، وله علاقة عميقة بالحياة اليومية للصحراويين. إن الأربعين سنة من اللجوء هي أربعين سنة من القمع الممارس من طرف نظام هيمنة ليس رأسماليًا فحسب، بل نظامًا رأسماليًا يستغل ثورات المناطق المحتلة”[50].
* المقال بقلم ناشطة من الصحراء الغربية المحتلة.