في خِضَمِّ الضجيج المحتدم حول المؤسسين وكتابة التاريخ، حيث تتكاثر السرديات وتتنازع الذاكرة، ينهض اسم الشهيد الولي مصطفى السيد شامخاً، لا بوصفه صفحةً من الماضي، بل باعتباره حضوراً دائماً في الوجدان الإنساني. منارةً لا يطالها الخفوت، تضيء دروب السالكين نحو الخلود، ذاك الخلود الذي لا تصنعه الأساطير وحدها، بل تُشيّده الفكرة حين تسكن إنساناً، وتكتمل حين تُختَم بالتضحية.
لم يكن الولي مصطفى السيد نتاج لحظةٍ عابرة ولا استجابةً ظرفية لزمنٍ مضطرب، بل كان وعياً متقدّماً على عصره، وعقلاً سياسياً نادراً تشكّل قبل أن تشتدّ العواصف. شابّاً نابغةً، جمع بين صفاء الرؤية وصرامة التحليل، وبين جذوة الحلم وانضباط العقل. في منطقه عمقُ رجل دولة، وفي اندفاعه حرارةُ ثائر، وفي صمته حكمةُ من يرى أبعد مما يُقال ويُرى.
امتلك الولي حنكةً سياسيةً استثنائية، لم تتجلَّ في المناورات الظرفية، بل في قدرته على استشراف مآلات الأحداث وربط الجزئي بالكلي، والآني بالتاريخي. كان يقرأ الوقائع في سياقها الواسع، ويفهم أن القضايا الكبرى لا تُدار بردود الأفعال، بل ببناء ميزانٍ دقيق بين المبدأ والواقع. لذلك لم ينخدع ببريق التسويات السهلة، ولم يُغْرِه منطق الربح السريع، مدركاً أن القضايا العادلة قد تخسر جولة، لكنها لا تخسر معناها.
كانت رؤيته الثاقبة واعيةً بتشابك العوامل المحيطة بالقضية، إقليمياً ودولياً، سياسياً وعسكرياً، نفسياً ورمزياً. أدرك أن الصراع لا يُحسَم في ساحات المواجهة وحدها، بل في الوعي، وفي الخطاب، وفي القدرة على الصمود الأخلاقي. فكان ثائراً يفكّر بعقل الاستراتيجي، وسياسياً يتحرّك بروح المناضل، جامعاً بين الصلابة في المبدأ والمرونة في الوسيلة.
لم يرَ الولي في الزعامة امتيازاً، بل عبئاً أخلاقياً ومسؤولية تاريخية. قيادته لم تكن موقعاً يُحتمى به، بل التزاماً يُختبر. لم يحتكر الحقيقة، ولم يصنع حول ذاته هالةً مصطنعة، بل ترك للفعل أن يتقدّم، وللنموذج أن يقنع. هكذا تشكّلت زعامته في الوجدان الجمعي: زعامة تستمدّ شرعيتها من الاتساق بين القول والعمل، ومن الثقة التي لا تُفرض بل تُكتسب.
بلغ مبدأ الشجاعة عند الولي مصطفى السيد ذروته حين انتقل من موقع التخطيط والتوجيه إلى موقع الفعل المباشر، فقاد بنفسه عمليةً عسكريةً على الأرض، مجسِّداً أرقى معاني الزعامة التاريخية. في تلك اللحظة، لم تعد القيادة خطاباً ولا توجيهاً من الخلف، بل حضوراً جسدياً في قلب المخاطرة، ومشاركةً كاملة في المصير ذاته الذي يطلبه من رفاقه. بذلك منح للقرار السياسي مصداقيته القصوى، وللنضال معناه الأخلاقي العميق.
لم يكن نزوله إلى الميدان نزوة بطولة ولا بحثاً عن مجد شخصي، بل فعلاً واعياً يكتب التاريخ بالفعل لا بالرواية اللاحقة. أراد أن يرسّخ حقيقة بسيطة وعميقة: أن القائد الحقيقي هو من يتحمّل الكلفة قبل أن يطالب بها غيره، وأن الزعامة التي لا تُختبر في لحظة الخطر تظلّ ناقصة مهما بلغت فصاحتها. هناك التقى الفكر بالفعل، وامتزج القرار بالمصير، فتحوّلت الشجاعة إلى موقف أخلاقي كامل.
بهذا السلوك، أعاد الولي تعريف القيادة الثورية، لا كإدارة للرجال من الخلف، بل كصناعة للمعنى من الصفوف الأولى. كانت تلك اللحظة كتابةً للتاريخ بمداد الفعل، وتكريساً لشرعية لا تُستمدّ من الشعارات ولا من الألقاب، بل من الاستعداد الصادق لبذل النفس في سبيل الفكرة. فجاءت الشهادة خاتمةً منسجمة مع مسارٍ اختار الوعي طريقاً، والالتزام منهجاً، والتاريخ مسؤولية لا تُفوَّض.
ومن هنا، تجاوز الولي مصطفى السيد حدود الجغرافيا والزمن، ليقيم في الوجدان الإنساني رمزاً للإنسان الممكن: ذاك الذي يلتقي فيه الحلم بالعقل، والفكرة بالفعل، والطموح بالمسؤولية. خلوده ليس في الصور ولا في الشعارات، بل في القيم التي جعل منها معياراً دائماً، وفي الأسئلة التي تركها مفتوحة أمام من جاؤوا بعده.
إن استحضار الشهيد الولي مصطفى السيد اليوم ليس فعلاً احتفالياً ولا حنيناً إلى الماضي، بل مساءلة قاسية للذات الجماعية. فهو وصيّة مفتوحة في ذمّة الأجيال اللاحقة: هل ما زالت الفكرة تُحمل بالصدق ذاته؟ وهل ما زالت القيادة تُفهم باعتبارها تضحية قبل أن تكون موقعاً؟ وهل ما زال التاريخ يُكتب بالفعل أم يُروى لتبرير العجز؟
هكذا يتحوّل الولي من سيرةٍ منجزة إلى معيارٍ دائم، ومن ذاكرةٍ ماضية إلى بوصلة للمستقبل. ومن هنا تبدأ مسؤولية الأجيال: أن تكتب فصولها بوعيٍ يليق بتلك التضحيات، وأن تدرك أن الخلود لا يُورَّث، بل يُكتسب بالفعل الصادق. فإمّا أن نكون على مستوى التاريخ الذي كُتب بالدم والوعي معاً، أو نتركه يُدان بصمتنا.
2025/12/18
سلامة مولود اباعلي

Comments
Post a Comment